د. بكري الجاك المدني
سأتناول في هذا المقال فرص الحل السياسي من منظور نظريات فض النزاعات من ناحية ميكانيكية مع تحليل شروط الواقع العسكري وطبيعة تطوره مع الأخذ في الاعتبار الاتجاهات السوسيولوجية التي بدأت تتخلق في شكل سرديات كبرى بعضا منها سيخلد في الذاكرة الجمعية ليؤرخ لما حدث في السودان في حرب الخامس عشر من أبريل 2023. في السابق مثل هذه السرديات عادة يصنعها المنتصر و كمثال هجوم الجبهة الوطنية علي الخرطوم في يوليو عام 1976 في محاولة لإسقاط نظام نميري خٌلّد في ذاكرة السودانيين الجمعية بأحداث المرتزقة لأن اعلام مايو قام بتصويرها كحركة مرتزقة و شكل بها السردية التي عبّرت عن إرادة المنتصر. الواقع الآن تغير كثيرا و مع دمقرطة وسائل الاتصال أصبحت صناعة السرديات الاجتماعية عملية معقدة و تتحكم فيها عوامل كثيرة من بينها المال و الدعاية و المشاعر، و في هذا لا أحد يعلم ماذا سيقول الناس عن هذه الحرب بعد عشرين عاما، في تقديري سيكون هناك حديث عن احتلال البيوت و التهجير و الاغتصابات و العنف الممنهج ضد المدنيين. و لمثل هذه السرديات تأثير في فرص نجاح أي حل سياسي اذا لابد من قدر من الرضا الشعبي حول مخرجات هذه الحلول و لا يكفي في هذا فكرة السلام السلبي الذي فقط يعني وقف العدائيات، فمثلما للحرب كلفة فلابد أن يكون لها قيمة.
سأقوم أولا بعرض الخيارات المثالية لكل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع أي ما يعرف بال Maximum Supportable Outcome MSO و هذا يعني حرفيا االحد المثالي الأعلى الذي يمكن أن تدعمه الوقائع، و بطريقة أخرى ماذا يمكن أن يحقق أي منهما بشكل مثالي وفقا لمعطيات الواقع العسكري على الأرض مقرونا بعوامل أخرى متمثلة في الشرعية (الاجتماعية والسياسية) والقبول الشعبي و العلاقات مع بعض الدول المؤثرة إقليميا و دوليا و تطابق مصالح هذه الدول مع الحد الأعلى المثالي لكل طرف. ثم سأعرض ما يعرف بال Least Acceptable Outcome LOA أي الحد الأدنى الذي يمكن القبول به لكل طرف في حالة عدم تمكنّهما من الحصول على التصور المثالي. و بعد ذلك سأقوم بمناقشة ما يعرف بال Best Alternative Outcome For A Negotiated Agreement اي البديل المثالي لاتفاق متفاوض عليه إذا كان هناك بالإمكان أمل في تطوير مثل هذا الخيار بواسطة الوسطاء. و في اثناء هذا العرض سأتناول سيناريوهات الحرب الثلاثة المعروفة: انتصار حاسم للجيش، انتصار حاسم للدعم السريع، وضعية غير معرّفة.
فيما يتعلق بالقوات المسلحة السودانية الخيار المثالي الغير قابل للتحقق هو دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة و التخلص من آل دقلو كمؤسسة عسكرية لها تأثير في الحياة السياسية و ربما القبول بوجود اقتصادي لاستثماراتهم دون حصولها على أي حماية أو أفضلية من قبل جهاز الدولة الأمر الذي يمكّن الصناعات الدفاعية من احتكار تصدير اللحوم و التوسع في التعدين مما يمكنها من مواصلة بناء إمبراطورية اقتصادية تعمل بشكل مستقل عن الدولة مما يسهل لها الاستمرار في السيطرة على السلطة السياسية من خلال السيطرة على الاقتصاد وخصوصا القطاع العام الذي سيصبح “خاص” تحت امرة القوات المسلحة وحدها لا شريك لها. هذا الوضع سيمّكن تحالف المال والسلطة من بقايا النظام السابق من الحفاظ على المزايا الاقتصادية المتمثلة في توظيف جهاز الدولة كواجهة لاكتساب شرعية اجتماعية و سياسية و توظيف هذه الشرعية لتأسيس قوة ناعمة يمكن أن تغير شكلها السياسي عدة مرات مع الإبقاء على نفس علاقات المصالح. تحقيق هذه المحصلة المثالية لابد للقوات المسلحة من نصر ساحق ينتهي بانتهاء الدعم السريع كقوة تابعة لأسرة آل دقلو و تجريده من أي مكون قبلي محدد، مع قدرتها على بسط سيطرتها على كل البلاد بما في ذلك مناطق إنتاج الثروة الحيوانية و مناجم التعدين عن الذهب.
و بما أن هذا النصر غير ممكن و غير معرّف فإن الحد الأعلي المثالي MSO العملي الذي تسعى له القوات المسلحة هو تجريد قوات الدعم السريع من أي خصوصية اقتصادية و استقلالية في اتخاذ أي قرارات عسكرية أو سياسية وأن تصبح خاضعة لإرادة القيادة الموحدة للقوات المسلحة. الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به القوات المسلحة LAO ربما يكون وجود لقوات الدعم السريع في ملفات الترتيبات الأمنية و الاصلاح الأمني والعسكري مع تقليص دورها السياسي و تحجيم أو إنهاء استقلاليتها الاقتصادية مما يعني عمليا تفكيك إمبراطورية آل دقلو الاقتصادية، هذا التصور سيمكّن القوات المسلحة من التخلي عن فكرة الاخضاع مؤقتا لكن قبول هذا الأمر سيكون رهينا بمدى قدرة القوات المسلحة في لعب دور سياسي في تشكيل طبيعة السلطة والحكم فى مستقبل البلاد، لذا هذا الناتج سيظل متحرك و قابل للتغيير و تحكمه عوامل الواقع المادي على الأرض و مدى قوة وتأثير حلفاء القوات المسلحة ( مصر وربما قطر و تركيا).
بالنسبة لقوات الدعم السريع و آل دقلو فأن الخيار المثالي الغير قابل للتحقق هو أن تتمكن قوات الدعم السريع من لعب دور جوهري في اعادة بناء الدولة السودانية و اعادة تشكيل الجيش السوداني بصيغة تمكن أسرة آل دقلو و امتداداتها القبلية من تحولها إلى حالة أشبه بوضعية العائلات الأميرية في دول الخليج أو علي شاكلة أسرة علي بونقو التي ظلت تتسيد المشهد السياسي في الجابون منذ ستينيات القرن الماضي، و هذا يعني احتفاظها بالثروات التي اقتنتها بالسيطرة على جهاز الدولة و بلعب دور المقاول في حرب اليمن و في عملية محاربة الهجرة و بقية عمليات الفساد المنظم بما في ذلك الحصول على نسبة 30% من أصول منظومة الصناعات الدفاعية.
و بما أن هذا الخيار يظل ممكنا فقط في حال انتصارها في الحرب و تحقيقها نصرا حاسما يمكنّها ليس فقط إخضاع كل القوات المقاتلة عبر القوة الصلبة بل ايضا امتلاكها لقوة ناعمة تعطيها فرص القبول الاجتماعي و شرعية اجتماعية تتمثل في قبول المحكومين بشرعية الحاكم. هذا الأمر لم يعد ممكنا لصعوبة النصر العسكري الحاسم أو الحصول