متابعات دارفور: انعام النور
في مساءٍ ثقيل، كانت الأخبار تتساقط من الفاشر عبر مكالمات “ستارلينك” المتقطعة ورسائل مشفّرة في مجموعات مغلقة. سقطت المدينة عسكرياً، ثم سقطت الاتصالات معها، وبقي السؤال معلّقاً: من يروي ما حدث؟
تحوّل الفضاء الإعلامي السوداني إلى ساحة قتال موازية، تستخدم فيها الأطراف كل شيء: اللغة، الدين، الصور، الشائعات، وحتى الاتهامات بالعمالة، لصناعة رواية واحدة تُقصي كل ما عداها. لم تعد المعلومات المضللة وخطاب الكراهية جزءاً من الضوضاء، بل أصبحت أداة مباشرة لتحريك العنف وتحديد من يعيش ومن يُستهدف.
تقرير ل “متابعات دارفور” يكشف كيف تحوّل الظلام الرقمي إلى سلاح يعيد صياغة الذاكرة، ويمحو الحقيقة، ويترك المدنيين بلا صوت ولا حماية.
المعلومة كسلاح — حين تتحول الأخبار إلى ذخيرة
منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، لم تعد الأخبار مجرد سرد للواقع؛ أصبحت أداة حرب.
تقارير بحثية عديدة صادرة في 2024 و2025 تؤكد أن السودان يعيش واحدة من أعقد بيئات “الحرب المعلوماتية” في أفريقيا.
تقرير Internews في أكتوبر 2025 وصف المشهد الإعلامي السوداني بأنه “منهار بالكامل تقريباً”، واعتبر وسائل التواصل الاجتماعي “ملاذاً يتيمًا للمعلومات… ومنجماً للمعلومات المضلّلة”.
أما تقرير CDAC Network – 2025 فذهب أبعد من ذلك: “المعلومات الضارة في السودان ليست ظاهرة جانبية للحرب… إنها جزء من البنية العسكرية نفسها، وتؤثر مباشرة على النزوح، والمساعدات، والخوف الجمعي.”
وفي تقرير Chr. Michelsen Institute (CMI)، تم وصف ما يحدث بأنه “حرب رقمية” تستخدم فيها الأطراف المتحاربة كل أدوات التلاعب مثل الصور القديمة تُقدَّم كأنها حدثت اليوم و مقاطع فيديو لخصوم متخيَّلين و حسابات وهمية تقود حملات كراهية و فبركة انتصارات ميدانية و التلاعب بصور الأقمار الصناعية و نشر خرائط “وهمية” لمسارات النزوح.
وفي دارفور تحديداً، حيث طرق الهروب ضيقة ومليئة بالمخاطر، كانت الشائعة تنتقل أسرع من الرصاصة.
رسالة “واتساب” مجهولة المصدر تقول إن “أحد الطرق فيه كمين” كفيلة بأن تغيّر اتجاه آلاف الأسر… رغم أن المعلومة قد تكون خاطئة تماماً.
تقرير صادر عن منظمة متخصصة في رصد الفضاء الرقمي في المنطقة أوضح أن الحملات المنسّقة للمعلومات المضللة في السودان لا تكتفي بتشويه الحقائق الميدانية، بل تؤثر مباشرة في قرارات الناس: مسارات النزوح، الثقة أو عدمها في المنظمات، وحتى خيارات البقاء في مدينة محاصرة أو الفرار منها.
ساحة معركة موازية – حين تصبح المعلومة سلاحاً
مع كل جولة قتال في الخرطوم أو دارفور، لا تُطلق فقط قذائف المدفعية، بل تُطلق أيضاً سيل من البيانات والتغريدات والبثوث المباشرة. تقارير بحثية حديثة حول “الحرب الرقمية” في السودان تشير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة رئيسية لبث خطاب الكراهية والتحريض، وفي نفس الوقت مجالاً لمحاولات مضادة لنشر معلومات موثوقة ومحتوى يدعو للسلام.
منذ الأيام الأولى للحرب، لاحظت منظمات مراقبة الإعلام أن الجيش وقوات الدعم السريع يتنافسان على “احتلال التايملاين” بيانات عاجلة عن “انتصارات كاسحة” و صور لمركبات محترقة تُنسب للطرف الآخر، أحياناً دون توثيق و اتهامات متبادلة بارتكاب مجازر ضد المدنيين.
يترافق ذلك مع جيوش من الحسابات الوهمية أو المجهولة، تروّج لروايات جاهزة: “إما معنا أو ضدنا”. هذه الثنائية الحادة تحوّل أي صوت مستقل أو نقدي إلى هدف للتهديد والتخوين.
سردية الجيش – الدولة، السيادة، و”محاربة الإرهاب”
في خطاب الجيش السوداني، كما يظهر في بياناته الرسمية وتصريحات قادته، يتم تقديم الحرب باعتبارها معركة “حفظ الدولة” او “الكرامة” في مواجهة “ميليشيات متمرّدة تهدد وحدة البلاد” ، تظهر هذه الرؤية في وصف الدعم السريع بأنه أداة لمشروعات خارجية أو “مليشيا إرهابية”.
الإصرار على استخدام لغة “القوات النظامية” و”السيادة الوطنية” ربط أي انتقاد لأداء الجيش بخطاب “الطابور الخامس” أو “المتواطئين مع العدو”.
تحليلات سياسية وإعلامية ترى أن الجيش اعتمد بشكل متزايد على شبكات إسلامية وحلفاء سياسيين لتعبئة الرأي العام، وتقديم الحرب بوصفها معركة هوية، لا مجرد صراع سلطة.
في الإعلام المقرّب من الجيش، تُبرز الانتصارات وتُخفى الهزائم. يتم التركيز على جرائم الدعم السريع في الخرطوم ودارفور، وهو أمر موثّق في كثير من التقارير الحقوقية، لكن دون مساحة حقيقية للاعتراف بالانتهاكات التي ارتكبتها قوات حكومية أو مليشيات متحالفة معها في مناطق أخرى.
في الفضاء الرقمي، وثّقت منظمة RSF Watch (غير الرسمية) حملات إلكترونية يقودها أنصار الجيش عبر صفحات مثل “الكتائب الإلكترونية السودانية”، تنشر رواية موحّدة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.” يجرّم أي محاولة للتسوية أو النقد الصحفي، ويعتبرها خيانة لدماء الشهداء. بهذه الطريقة، لا يسيطر الجيش فقط على جزء من السردية، بل يضيّق أيضاً هامش الحركة أمام الإعلام المستقل.
هذه السردية ليست عشوائية؛ بل أداة لتثبيت شرعية الجيش محلياً ودولياً ، فالسيطرة على “لغة الحرب” تعني السيطرة على صورتها في الإعلام والدوائر الدولية، وعلى ذاكرة ما بعد الحرب وهو ما يحتاجه الجيش للحفاظ على موقعه في مستقبل الدولة.
سردية الدعم السريع – المظلومية، الحماية، وبطولة السلاح
على الضفة الأخرى، تبني قوات الدعم السريع روايتها الخاصة، التي ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية:
1. خطاب المظلومية التاريخية
تُقدِّم الدعم السريع نفسها كامتداد لمجموعات مهمّشة حُرمت من السلطة لعقود، وأن الحرب الحالية هي “انتفاضة الهامش” ضد مركز ظالم.
2. ادعاء حماية المدنيين
في بياناتها المصوّرة والمكتوبة، تكرّر القوات أن عملياتها العسكرية تستهدف “كتائب النظام البائد”، وأنها تحمي المدنيين وتسمح لهم بالعبور الآمن، حتى حين تتحدث تقارير أممية ومنظمات حقوقية عن نمط من الإعدامات الميدانية والعنف الجنسي والنهب في مناطق سيطرتها.
3. صناعة البطولة الرقمية
على “تيك توك” و”فيسبوك” و”إكس”، تنتشر فيديوهات لمقاتلين يضحكون، يطلقون النار علي المدنيين، يلتقطون صوراً أمام دبابات وأحياء مدمّرة.
بعض المؤثرين المقيمين في الخارج تحوّلوا إلى واجهات دعائية غير رسمية للقوات، يبرّرون الفظائع، ويحوّلون الحرب إلى محتوى ترفيهي عنيف، يستقطب آلاف المتابعين.
في أكتوبر 2025، كشفت صحيفة بريطانية أن “مؤثراً سودانياً” يقيم في شيفيلد كان يلعب دور الناطق غير الرسمي للقوات يتم استضافته مباشرة من قِبل مقاتلين داخل دارفور، ويصف العمليات العسكرية بأنها “بطولية” و يتفاخرون بعمليات قتل جماعي، ما دفع منصات مثل “إكس” و”يوتيوب” لحذف حساباته عدة مرات.
و تقرير SMEX – 2024 و2025 وثّق استخدام الدعم السريع “شبكات حسابات وهمية” تروّج لروايتها، وتهاجم أي محتوى ينتقدها.
هذه السردية الرقمية تضرب عميقاً في وعي جمهور شاب، يعيش الإحباط والفقر والغضب من عقود التهميش، وتختلط فيها مشاعر الانتقام بالبحث عن “قوة ينتمي إليها”. لكنها في المقابل تفتح الباب واسعاً أمام تطبيع العنف، وتحويل جرائم حرب موثّقة إلى “محتوى” لا يثير سوى الإعجابات والضحك وهو ما تستغله القوات لتعزيز تمددها العسكري والاجتماعي.
الإنترنت… سلاح حصار لا يقل خطورة عن المدفعية
لا يمكن فهم حرب السرديات في السودان بمعزل عن سلاح قطع الاتصالات. فمنذ فبراير 2024 شهدت البلاد واحدة من أوسع عمليات الإظلام الرقمي في العالم، حين انقطعت خدمات معظم الشركات الكبرى، تاركة ملايين الأشخاص بلا اتصال تقريباً.
تقارير حقوقية حذّرت من أن هذا الانقطاع عطّل تنسيق المساعدات الإنسانية، ومنع الناس من الحصول على معلومات حول الطرق الآمنة للهروب من مناطق القتال أو إرسال الأموال لأسرهم.
كما تشير تقارير متخصصة في حرية الإنترنت إلى أن حرية الوصول إلى الشبكة في السودان تراجعت بشدة خلال الحرب، ليس فقط بسبب الدمار في البنية التحتية، بل أيضاً بسبب قرارات متعمدة من الأطراف المتحاربة لفرض تعتيم على مناطق معينة، وتعطيل قدرة السكان على توثيق جرائم محتملة أو التواصل مع العالم الخارجي.
في هذا السياق، ظهرت الإنترنت عبر الأقمار الصناعية (ستارلينك) كطوق نجاة محدود ومتفاوت.
تقارير إعلامية رصدت كيف لجأ سودانيون وناشطون في مناطق مثل كرري بأمدرمان، وبعض مناطق دارفور، إلى نقاط وصول سرّية أو منظّمة بالتنسيق مع الجيش، لتجاوز الإظلام الرقمي.
لكن هذا الحل نفسه أصبح موضع صراع جديد: من يملك أجهزة ستارلينك؟ من يتحكم في توزيعها؟ وهل تُستخدم فقط لأغراض إنسانية وإعلام مستقل، أم أيضاً لتعزيز قدرة طرف واحد على إدارة حربه الإعلامية؟
بهذه الطريقة، تحوّل الإنترنت في السودان إلى مورد نادر وساحة نفوذ: من يسيطر عليه يمتلك القدرة على الكلام، بينما يُدفع الآخرون إلى الصمت الإجباري.
الصحفيون في قلب النار — مهنة تصبح حكماً بالإعدام
في خضم هذه الفوضى المعلوماتية، يقف الصحفيون والصحفيات في السودان، وخصوصاً في دارفور، في قلب الاستهداف و لم يشهد السودان استهدافاً للصحافة بهذا الحجم في تاريخه الحديث.
تقارير دولية متتابعة تُظهِر صورة قاتمة لصحفيون قُتلوا و منظمة “مراسلون بلا حدود” ومنصات حقوقية أخرى وثّقت منذ الشهور الأولى للحرب استهدافاً متعمداً للصحفيين من قِبل طرفي النزاع و ان السودان تراجع إلى المرتبة 156 من أصل 180 دولة في حرية الصحافة..
و قالت منظمة ال UNESCO في يونيو 2025 ان “الصحفيون في السودان أصبحوا أهدافاً مباشرة، يتعرضون للاعتقال والقتل والتعذيب والعنف الجنسي.”
ومع سقوط الفاشر في أكتوبر 2025، تحوّل الصحفيون في المدينة إلى أهداف مباشرة. بيانات “لجنة حماية الصحفيين” تشير إلى أن ما لا يقل عن 11–13 صحفياً وصحفية تعرّضوا للاختطاف أو الاختفاء القسري خلال أيام قليلة، في ظل تعتيم شبه كامل على الاتصالات. بعضهم ظهر لاحقاً بعد تمكنه من الفرار، بينما انقطعت أخبار آخرين تماماً، وسط شهادات عن تعرض بعضهم للعنف الجنسي على أيدي عناصر الدعم السريع.
في موازاة ذلك، أصدرت مجموعات من الصحفيين السودانيين في الداخل والخارج بيانات مفتوحة، تطالب بتعبئة دولية لحماية الإعلاميين، وتوفير ممرات آمنة لهم، والتعامل مع الهجوم المنهجي على الصحافة بوصفه جزءاً من جرائم الحرب لا هامشاً يمكن تجاهله.
بهذا المعنى، لا تدور حرب السرديات فقط بين الجيش والدعم السريع، بل أيضاً ضد أي محاولة مستقلة لنقل الحقيقة من الميدان.
الجمهور بين نار الدعاية وغياب الثقة
لا يمكن تحميل مسؤولية الفوضى المعلوماتية للطرفين المتحاربين وحدهما. فالجمهور نفسه أصبح جزءاً من معادلة الحرب الإعلامية، سواء عن قصد أو بغير قصد.
تقرير CDAC – 2025 وصف الجمهور السوداني بأنه “الضحية والفاعل” في الوقت ذاته.
في معسكرات النزوح ومناطق اللجوء، تنتشر الأخبار عبر ثلاث قنوات أساسية ، كلام الشفاه – روايات متضاربة تنتقل من خيمة إلى أخرى، من دون أي قدرة على التحقق.
ومجموعات واتساب وفيس بوك حيث تُتداول رسائل صوتية وصور مجهولة المصدر، تتنبأ بالمجازر أو تعلن هدناً غير موجودة، أو تحذّر من طرق “مفخخة” أحياناً بلا أساس.
ومنصات التواصل المفتوحة وهي ليست متاحة للجميع بسبب قطع الشبكة، لكنها حين تُفتح تتحوّل إلى سيل من الصدمة والذعر والغضب.
دراسات حول “البيئة الإعلامية السودانية” بعد الحرب تشير إلى أن تآكل الثقة في الإعلام الرسمي، وانهيار جزء كبير من البنية الصحفية، دفع الناس إلى الاعتماد على مصادر غير مهنية، أو صفحات أفراد ذوي حضور قوي، حتى لو كانوا بعيدين عن الميدان.
وتقرير CSF – 2025 أكد أن خطاب الكراهية أحد أهم أسباب النزوح القسري في السودان.
فبعض الرسائل التحريضية خاصة ذات الطابع القبلي كانت كافية لتفجير أحياء بأكملها.
وفي ظل هذه الفوضى، يصبح أي محتوى مرئي قوي حتى إن كان مفبركاً أو من سياق مختلف أكثر إقناعاً من بيان مكتوب صادر عن منظمة حقوقية، الصورة تهزم النص، والصدمة تهزم التحقق.
أين تقف المنصات المستقلة؟ فرصة ومسؤولية
وسط هذا المشهد المعقّد، تبرز أهمية منصات مستقلة تحاول أن تمشي على حبل مشدود بين طرفين مسلحين، وجمهور متعب، وضغوط نفسية وأمنية هائلة على من ينتجون المحتوى.
دور هذه المنصات لا يجب أن يقتصر على “نقل الخبر”، بل يتجاوز ذلك إلى تفكيك الخطاب الدعائي و رصد خطاب الكراهية والتحريض وحماية المصادر والصحفيين، إلى جانب توثيق العلاقة بين الحرب على الميدان والحرب على الحقيقة.
من يملك السردية… ومن يدفع الثمن؟
في النهاية، السؤال الحقيقي ليس فقط: من يملك السردية؟
الجيش؟ الدعم السريع؟ الناشطون في الشتات؟ المنصات الدولية؟
السؤال الأهم: من يدفع ثمن السردية؟
الجيش والدعم السريع يملكان السلاح.
لكن السردية من الناحية الأخلاقية يجب أن يملكها المدنيون.
الذين فقدوا بيوتهم وأصواتهم وذويهم.
الذين يعيشون اليوم على حافة المجاعة، والخوف، والإعلام الحربي الذي يريدهم أدوات في معركة ليست معركتهم.
في عالم لا يلتفت إلا لما يُنشر ويُوثّق، تصبح المعركة على السردية جزءاً لا يتجزأ من معركة البقاء نفسها.
وما لم تُصَمَّم وسائل الإعلام المستقلة لتقاوم هذه الحرب على الحقيقة بقدر ما تقاوم الحرب على الأجساد، فإن ما سيبقى في ذاكرة العالم عن السودان لن يكون ما عشناه فعلاً، بل ما أراده صانعو الدعاية أن يُروى عنا.








