عمار نجم الدين يكتب: الجلابي والتمادي في نقض العهود والمواثيق تحرير الفاشر نموذجاً 

,

متابعات دارفور: عمار نجم الدين

سقوط الفاشر لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، بل لحظة كاشفة لانهيار التوازن التاريخي بين المركز والهامش في السودان.

المدينة التي ظلت عامًا تحت الحصار كانت تختزن في ترابها سبعين عامًا من الغدر السياسي، حيث يُكتب العهد في الخرطوم ويُنكث في الأطراف.

وما حدث في الفاشر ليس جديدًا، بل تكرار حرفي لما وصفه أبيل ألير في كتابه التاريخي التمادي في نقض العهود والمواثيق، حين وثّق كيف جعل الجلابي من الخيانة السياسية نهج حكمٍ دائم، ومن نقض المواثيق سلاحًا لإعادة إنتاج سلطته في كل عهد جديد.

منذ اتفاقية أديس أبابا عام 1972 حتى اتفاق جوبا 2020 ظلّ المركز يوقّع على العهود ليكسب الوقت لا الثقة. الجلابي في تعريفه البنيوي ليس شخصًا بل ذهنية سلطة ترى في الأطراف موضوعًا للإدارة لا شريكًا في الوطن.

كل اتفاق يبدأ بوعود التنمية وينتهي بمجازر، لأن بنية الدولة نفسها قائمة على فكرة الوصاية. الفاشر إذن لم تسقط بفعل قوة عسكرية، بل لأنها حملت إرثًا من النكث، ضحية بنية طويلة من الوعود التي لا تُنفّذ والعقود التي تُكتب للحظة الكاميرا ثم تُمحى مع أول تغيير في موازين القوة.

حين انطلقت ثورة دارفور في مطلع الألفية كانت ترفع راية العدل والمساواة، لكن الحلم تآكل تحت ركام المفاوضات وتحولت بعض القيادات إلى نخبة تفاوضية تتحدث بلغة الهامش وهي تعيش في قلب المركز.

ثم جاءت القوات المشتركة كتحالف لحركات دارفورية، لكنها لم تخرج من فخّ البنية الجلابية؛ فقاتلت شمالًا تحت راية الجيش وتركت دارفور للدمار. بدل أن تتوحّد البنادق لتحرير الإقليم من هيمنة المركز وُجّهت لتثبيت مشروعه من جديد.

القيادات التي بنت مجدها على دماء المقاتلين تحوّلت إلى نخبة انتهازية؛ بعضهم في أوروبا وبعضهم في الفنادق يديرون النضال عبر مؤتمرات زوم بينما القرى تحترق. أبناء دارفور يموتون في الميدان وأبناؤهم يدرسون في الجامعات الغربية.

هذا التناقض يعيدنا إلى مفهوم الاغتراب الطبقي عند فانون ومالكولم إكس، حين تنفصل الطبقة المتعلمة عن جذورها الشعبية وتتحول إلى وسيط بين السيد والعبد لا إلى قوة تحررية. صار بعض قادة دارفور يشبهون عبيد المنازل في تحليل مالكولم إكس، أولئك الذين أحبوا سيدهم أكثر من أنفسهم ودافعوا عن القصر وهم محرومون من دخوله.

الهزيمة في الفاشر لم تكن من قوات تأسيس بل من الداخل، من قلب المشروع الذي خان نفسه. الجيش الجلابي لم يدافع عن دارفور لأنه لا يراها جزءًا منه، والقوات المشتركة فشلت لأنها صدّقت وعدًا كُتب في الخرطوم لا في الميدان.

الخذلان هنا ليس سياسيًا فقط، بل معرفي لأن النخب التي وقّعت باسم دارفور لم تفهم أن المفاوضة مع المركز لا تُنتج عدلًا بل تُؤجل المأساة إلى حين.

في معركة الفاشر كان القتال بين أبناء الهامش من الطرفين، بينما من أدار اللعبة هو العقل الجلابي الجالس في بورتسودان أو الخرطوم. من قُتل في الميدان هم أبناء القرى والبوادي، من تربوا في المخيمات ومن حُرموا من المدارس والمستشفيات.

الجلابي لم يطلق رصاصة واحدة، كل ما فعله هو إدارة الحرب من بعيد يحرّك الأطراف المتقاتلة كقطع شطرنج ثم يكتفي بتعليقٍ بارد أو “مديدة حارة” في قناة تلفزيونية. الهدف لم يكن الانتصار العسكري بل كسر شوكة الوعي، أن يظل الهامش يقاتل نفسه ليبقى المركز نقيًا من الدم. هكذا تحققت مقولة أبيل ألير في شكل جديد: المركز لا يحارب بل يدير الحرب حتى يضمن أن الضحية والجلاد كلاهما من أبناء الهامش.

تحالف تأسيس اليوم يعيد كتابة سردية السودان من زاوية مختلفة. هو امتداد بنيوي لمشروع السودان الجديد لكنه لا يطلب الاعتراف من المركز كما فعلت الحركات السابقة، بل يسعى لتأسيس مركز بديل من الأطراف.

وبينما كان أبيل ألير يحذر في السبعينات من نقض العهود كممارسة ممنهجة للهيمنة، تأتي تأسيس بعد نصف قرن لتواجه هذا النقض بالفعل لا بالبيان. فهي لا تفاوض على نص في اتفاقية، بل تفرض واقعًا جديدًا قاعدته أن العهد لا يُكتب إلا بدم الذين دُفعوا للحرب دون أن يُستشاروا فيها.

مصطلح عبيد المنازل في هذا السياق ليس شتيمة ولا عنصرية بل أداة تحليلية لفهم علاقة السلطة بالتابع. هو توصيف لطبقة سياسية من الهامش تبنت وعي المركز فصارت تمارس التهميش على أهلها. حين يُقاتل ابن دارفور ضد ابن دارفور باسم الجلابي يصبح العبد هو من يدافع عن سلاسله لا من يقاتل لفكها. بهذا المعنى الصراع في السودان ليس عرقيًا فقط بل طبقي معرفي بين من يرى نفسه حُرًّا في خدمة المركز ومن يريد أن يكون سيد قراره في الهامش.

تكرار النقض والغدر عرض لمرض أعمق هو التمركز النيلي الذي يحتكر الوطنية ويختزل السودان في مجرى النيل وحدوده الجغرافية. هذه البنية رسّخت ثلاث طبقات من الهيمنة: عسكرية تُخضع الأطراف بالقوة، رمزية تصوغ مفهوم “السوداني الجيّد” على مقاس الخرطوم، ومعرفية تكتب التاريخ من وجهة نظر الفاتحين لا المقهورين. وسقوط الفاشر كسر هذه الطبقات الثلاث معًا لأنه أثبت أن من يملك الأرض لا يمكن أن يُهزم إلى الأبد.

تحالف تأسيس لا يقدّم نفسه كقوة عسكرية بديلة بل كوعي جمعي جديد يريد إعادة تعريف الدولة. هو مشروع ما بعد النقض يسعى لعقد لا يُنقض لأنه لا يُفرض من فوق. تأسيس تمثّل نقيض الجلابي، تقيم الشرعية من القاعدة إلى القمة لا من القصر إلى المخيم. وانتصارها في الفاشر لا يُقاس بعدد الكيلومترات التي سيطرت عليها بل بعدد المفاهيم التي هزمتها، هزمت قدسية المركز وكشفت زيف الجيش القومي وأسقطت أسطورة أن الخرطوم وحدها تملك حقّ البقاء.

حين كتب أبيل ألير عن نقض العهود والمواثيق لم يكن يوثّق للتاريخ فقط بل كان يصرخ في وجه أمة لا تتعلم. واليوم بعد خمسين عامًا يُعاد المشهد نفسه في دارفور لكن مع وعي جديد يرفض التكرار. الجلابي الذي كان يدير الحروب من القصور فقد سلطته الأخلاقية لأن الوعي الشعبي أدرك اللعبة.

وسقوط الفاشر، رغم مأساويته، فتح بابًا تاريخيًا، فحين يسقط المركز في اختبار الوفاء تنهض الأطراف لتكتب عهدًا جديدًا بدمها لا بحبر الخرطوم. ذلك هو العهد الذي تسعى إليه تأسيس، عهد لا يُنقض لأنه لا يقوم على الخداع بل على الوعي والدم والكرامة. السودان الذي يُبنى من الأطراف لن يكون بعد اليوم تابعًا في مسرح الجلابي، بل فاعلًا يصوغ تاريخه بنفسه ويكسر أخيرًا سلسلة النقض التي قيّدته منذ الاستقلال.

بقلم: عمار نجم الدين

سقوط الفاشر لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، بل لحظة كاشفة لانهيار التوازن التاريخي بين المركز والهامش في السودان. المدينة التي ظلت عامًا تحت الحصار كانت تختزن في ترابها سبعين عامًا من الغدر السياسي، حيث يُكتب العهد في الخرطوم ويُنكث في الأطراف. وما حدث في الفاشر ليس جديدًا، بل تكرار حرفي لما وصفه أبيل ألير في كتابه التاريخي التمادي في نقض العهود والمواثيق، حين وثّق كيف جعل الجلابي من الخيانة السياسية نهج حكمٍ دائم، ومن نقض المواثيق سلاحًا لإعادة إنتاج سلطته في كل عهد جديد.

منذ اتفاقية أديس أبابا عام 1972 حتى اتفاق جوبا 2020 ظلّ المركز يوقّع على العهود ليكسب الوقت لا الثقة. الجلابي في تعريفه البنيوي ليس شخصًا بل ذهنية سلطة ترى في الأطراف موضوعًا للإدارة لا شريكًا في الوطن. كل اتفاق يبدأ بوعود التنمية وينتهي بمجازر، لأن بنية الدولة نفسها قائمة على فكرة الوصاية. الفاشر إذن لم تسقط بفعل قوة عسكرية، بل لأنها حملت إرثًا من النكث، ضحية بنية طويلة من الوعود التي لا تُنفّذ والعقود التي تُكتب للحظة الكاميرا ثم تُمحى مع أول تغيير في موازين القوة.

حين انطلقت ثورة دارفور في مطلع الألفية كانت ترفع راية العدل والمساواة، لكن الحلم تآكل تحت ركام المفاوضات وتحولت بعض القيادات إلى نخبة تفاوضية تتحدث بلغة الهامش وهي تعيش في قلب المركز. ثم جاءت القوات المشتركة كتحالف لحركات دارفورية، لكنها لم تخرج من فخّ البنية الجلابية؛ فقاتلت شمالًا تحت راية الجيش وتركت دارفور للدمار. بدل أن تتوحّد البنادق لتحرير الإقليم من هيمنة المركز وُجّهت لتثبيت مشروعه من جديد.

القيادات التي بنت مجدها على دماء المقاتلين تحوّلت إلى نخبة انتهازية؛ بعضهم في أوروبا وبعضهم في الفنادق يديرون النضال عبر مؤتمرات زوم بينما القرى تحترق. أبناء دارفور يموتون في الميدان وأبناؤهم يدرسون في الجامعات الغربية. هذا التناقض يعيدنا إلى مفهوم الاغتراب الطبقي عند فانون ومالكولم إكس، حين تنفصل الطبقة المتعلمة عن جذورها الشعبية وتتحول إلى وسيط بين السيد والعبد لا إلى قوة تحررية. صار بعض قادة دارفور يشبهون عبيد المنازل في تحليل مالكولم إكس، أولئك الذين أحبوا سيدهم أكثر من أنفسهم ودافعوا عن القصر وهم محرومون من دخوله.

الهزيمة في الفاشر لم تكن من قوات تأسيس بل من الداخل، من قلب المشروع الذي خان نفسه. الجيش الجلابي لم يدافع عن دارفور لأنه لا يراها جزءًا منه، والقوات المشتركة فشلت لأنها صدّقت وعدًا كُتب في الخرطوم لا في الميدان. الخذلان هنا ليس سياسيًا فقط، بل معرفي لأن النخب التي وقّعت باسم دارفور لم تفهم أن المفاوضة مع المركز لا تُنتج عدلًا بل تُؤجل المأساة إلى حين.

في معركة الفاشر كان القتال بين أبناء الهامش من الطرفين، بينما من أدار اللعبة هو العقل الجلابي الجالس في بورتسودان أو الخرطوم. من قُتل في الميدان هم أبناء القرى والبوادي، من تربوا في المخيمات ومن حُرموا من المدارس والمستشفيات. الجلابي لم يطلق رصاصة واحدة، كل ما فعله هو إدارة الحرب من بعيد يحرّك الأطراف المتقاتلة كقطع شطرنج ثم يكتفي بتعليقٍ بارد أو “مديدة حارة” في قناة تلفزيونية. الهدف لم يكن الانتصار العسكري بل كسر شوكة الوعي، أن يظل الهامش يقاتل نفسه ليبقى المركز نقيًا من الدم. هكذا تحققت مقولة أبيل ألير في شكل جديد: المركز لا يحارب بل يدير الحرب حتى يضمن أن الضحية والجلاد كلاهما من أبناء الهامش.

تحالف تأسيس اليوم يعيد كتابة سردية السودان من زاوية مختلفة. هو امتداد بنيوي لمشروع السودان الجديد لكنه لا يطلب الاعتراف من المركز كما فعلت الحركات السابقة، بل يسعى لتأسيس مركز بديل من الأطراف. وبينما كان أبيل ألير يحذر في السبعينات من نقض العهود كممارسة ممنهجة للهيمنة، تأتي تأسيس بعد نصف قرن لتواجه هذا النقض بالفعل لا بالبيان. فهي لا تفاوض على نص في اتفاقية، بل تفرض واقعًا جديدًا قاعدته أن العهد لا يُكتب إلا بدم الذين دُفعوا للحرب دون أن يُستشاروا فيها.

مصطلح عبيد المنازل في هذا السياق ليس شتيمة ولا عنصرية بل أداة تحليلية لفهم علاقة السلطة بالتابع. هو توصيف لطبقة سياسية من الهامش تبنت وعي المركز فصارت تمارس التهميش على أهلها. حين يُقاتل ابن دارفور ضد ابن دارفور باسم الجلابي يصبح العبد هو من يدافع عن سلاسله لا من يقاتل لفكها. بهذا المعنى الصراع في السودان ليس عرقيًا فقط بل طبقي معرفي بين من يرى نفسه حُرًّا في خدمة المركز ومن يريد أن يكون سيد قراره في الهامش.

تكرار النقض والغدر عرض لمرض أعمق هو التمركز النيلي الذي يحتكر الوطنية ويختزل السودان في مجرى النيل وحدوده الجغرافية. هذه البنية رسّخت ثلاث طبقات من الهيمنة: عسكرية تُخضع الأطراف بالقوة، رمزية تصوغ مفهوم “السوداني الجيّد” على مقاس الخرطوم، ومعرفية تكتب التاريخ من وجهة نظر الفاتحين لا المقهورين. وسقوط الفاشر كسر هذه الطبقات الثلاث معًا لأنه أثبت أن من يملك الأرض لا يمكن أن يُهزم إلى الأبد.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد