السودانيين يبحثون عن مخرج آمن بعد إنهيار ود مدني

متابعات دارفور : ود مدني

بينما كان السودانيون يتابعون أنباء المعارك الضارية على المشارف الشرقية لمدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة منذ صباح أمس الإثنين، وصمود قوات الجيش حتى بعد منتصف النهار، أعلن على نحو مفاجئ في الخامسة عصراً، اجتياح قوات “الدعم السريع” للمدينة وسقوطها في قبضتها، كما اجتاحت في الوقت نفسه مدينة رفاعة أكبر مدن شرق الجزيرة التجارية .

أحدث دخول القوات المهاجمة إلى قلب المدينة حالاً من الصدمة والرعب ترافقت مع موجات كبيرة ومتزايدة من النزوح نحو ولايتي سنار والقضارف المجاورتين .

و تحاول أسرة التسعيني علي عبدالرحمن دون جدوى لملمة أطراف الأسرة المشتته في أكثر من منطقة وبلد بعد أن أصبح والدهم واثنان من أبنائه يعيشون في شوارع مدينة سنار بولاية النيل الأزرق مع عشرات الآلاف من الفارين من مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة بوسط السودان في العراء دون مأوى ولا طعام ولا مياه؛ بعد أن امتلأت المدارس والمؤسسات العامة بالباحثين عن المأوى.

وكانت مدينة مدني أهم مراكز الإيواء لنحو 4 ملايين من الأطفال والنساء والرجال الذين فروا من العاصمة الخرطوم بعد اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل؛ لكن بعد دخول الحرب شهرها التاسع تحولت ود مدني نفسها إلى واحدة من أخطر مناطق القتال في البلاد.

وبعد معاناة شديدة عاشها مع آلاف النازحين مثله؛ وصل عبدالرحمن إلى مدينة سنار بعد رحلة استغرقت نحو 5 ساعات من ود مدني التي كان يتلقى فيها، منذ فراره إليها من الخرطوم، العلاج من مرض الفشل الكلوي.

 ورغم أن المسافة بين المدينتين لا تتعدى 105 كيلومترات فقط إلا أن طوابير السيارات الطويلة، والتدفقات البشرية الراجلة، والعقبات الأمنية العديدة، وانعدام الوقود كلها أسباب أدت إلى تأخير الخروج من مدني، التي شهدت خلال الساعات الماضية انتشارا كبيرا لقوات الدعم السريع بعد معارك استمرت اكثر من 5 أيام على تخوم المدينة التي تعتبر ثاني اهم وأكبر مدن البلاد، وتحيط بها عدد من القرى والمناطق التي أصبحت تحت سيطرة قوات الدعم السريع حتى صباح الثلاثاء.

ومع اتساع رقعة القتال الذي راح ضحيته حتى الآن نحو 12 ألف شخص، وأجبر بسببه أكثر من 7 ملايين شخص على ترك بيوتهم؛ تشتت الكثير من الأسر في أكثر من مدينة وبلد وأصبحت مسالة البحث عن طريقة للم الشمل هاجسا يؤرق آلاف الأسر.

وعندما اندلع القتال في الخرطوم سارعت آلاف الأسر للفرار في وقت كان فيه أفراد بعضها خارج الخرطوم لظروف مختلفة وبعضهم لا يمتلك حتى أوراق ثبوتيه أو جوازات سفر، مما أدى في حالات عديدة إلى تشتت أفراد الأسرة الواحدة في أكثر من بلد؛ لكن مع تطاول أمد الحرب وارتفاع تكاليف السفر وصعوبة الإجراءات قد تصبح أمنية جمع الشمل بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين؛ خصوصا بعد تدهور الأوضاغ في ود مدني التي كانت تعتبر حتى الأحد نقطة الارتكاز الرئيسية والأكثر أمانا في وسط البلاد.

 وربما تكون قصة أسرة عبدالرحمن من أكثر قصص الحرب المستمرة في السودان منذ 9 أشهر؛ مأساوية فقد تفرقت الأسرة المكونة من 9 أفراد بين 3 دول؛ فعندما فرت الأسرة من الخرطوم في الأسبوع الخامس من القتال متجهة إلى مدني كان الابن الأكبر “عادل” في مهمة عمل في إقليم دارفور؛ وفي حين تمكن الأب والأم واثنان من أبنائهمها من الوصول إلى مدني؛ سافر شقيقا عادل إلى مدينة بورتسودان بشرق البلاد على أمل الحصول على جوازات تمكنهم من تسفير والدهم المريض لتلقي العلاج في الخارج.

أما عادل فقد نجح في عبور الحدود إلى دولة تشاد المجاورة بعد أن نجا من الموت بأعجوبة خلال اشتباكات عنيفة شهدتها مدينة الجنينة عاصمة إقليم غرب دارفور في شهر أغسطس.

 ويقول أحمد شقيق عادل الأصغر لموقع “كنا نقطن في حي قريب من وسط الخرطوم حيث تحتدم المعارك، وعندما قررنا الفرار كان شقيقنا الأكبر في منطقة غرب دارفور النائية.. كان علينا في البداية تأمين مكان يتلقى فيه والدنا المريض جرعات غسيل الكلى، وكانت الوجهة المتاحة هي مدينة ود مدني.. الآن اضطررنا لنقل الوالد إلى مدينة سنار التي لا تتوفر فيها معينات كافية، ولا ندري ما ينتظرنا، ولم تعد هنالك طريقة للملمة بقية أفراد الأسرة.. إنه وضع مأساوي”.

وفي حين يتلاشى أمل العودة لدى أكثر من 3 ملايين عبروا حدود الدول المجاورة؛ يواجه نحو 4 ملايين نازح في المدن الداخلية الأقل خطرا ظروفا معيشية وصحية سيئة للغاية؛ بعضهم مهدد بفقدان المأوى بعد البدء في إخلائهم من المدارس والمؤسسات التعليمية التي كانت تأوي أكثر من 70 في المئة من التازحين في مختلف مدن البلاد؛ في ظل شح كبير في الوحدات السكنية التي تضاعفت أسعارها بأكثر من 6 مرات في معظم المدن التي لجأ لها النازحون الذين فقد نحو 80 في المئة منهم مصدر دخلهم.

ومع فقدان الجنيه السوداني نحو 90 في المئة من قيمته حيث يتم تداول الدولار الواحد بأكثر من 1000 جنيه حاليا مقارنة بنحو 600 جنيها قبل الحرب؛ يجد الكثير من السودانيين الذين فروا إلى الخارج صعوبة بالغة في تدبر احتياجاتهم؛ إذ يعتمدون على مدخراتهم التي يحولون منها عبر التطبيقات المصرفية لتجار محليين مقابل العملة محليين.

وعقد الانهيار الكبير الذي حدث قي قيمة صرف الجنيه خلال الأسابيع الماضية حسابات الكثير من السودانيين الذين أجبرهم القتال على الفرار لدول أخرى؛ فقد تضاءلت كثيرا قيمة تحويلاتهم لعملات البلدان المستضيفة.

اجتياح رفاعة

وأفاد شهود عيان أن قوات “الدعم السريع” اجتاحت كذلك مدينة رفاعة وعدداً من القرى والمدن الصغيرة على الطريق الرابط بين الخرطوم وود مدني في برانكو والهلالية والجنيد وود الفضل وكديوة والشرفة وحنتوب وأم شانق، واستولت على أموال وسيارات وأسرت عدداً كبيراً من الشباب بتلك القري ما زال مصيرهم مجهولاً، كما سطت على مصنع سكر الجنيد.

وكشفت لجان مقاومة وحدة حنتوب الإدارية عن نزوح نحو 5 آلاف من سكان أحياء الرياض والقادسية وحنتوب والتكيلات والإنقاذ والملكية وأبو حراز، إلى منطقة الفاو والقضارف وسنار، وهم الآن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في ظل أوضاع إنسانية غاية الصعوبة وهناك مرضى وكبار سن.

وجه البيان نداءً عاجلاً إلى منظمات المجتمع المدني بالوقوف مع المواطنين وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، بعد تعرضهم للقتل والنهب والاحتجاز وهدم البيوت وانقطاع المياه والكهرباء، خلال ثلاثة أيام من الاشتباكات المتواصلة داخل المنطقة.

وأكد بيان للجان مقاومة ود مدني انتشار قوات “الدعم السريع” داخل أحياء المدينة ونصبها نقاط ارتكاز في شوارعها، كما بدأت في سرقة المنازل والسيارات في ظل اختفاء تام للجيش والشرطة.

ممرات إنسانية

وناشدت منظمة محامو الطوارئ طرفي النزاع السماح بدخول المسعفين والعاملين بالحقل الطبي والناشطين بغرف الطوارئ وفتح ممرات إنسانية لإجلاء المرضى العالقين بالمستشفيات والمراكز الطبية بود مدني، المحتاجين للرعاية الطبية وداخل المنازل وكل الراغبين بالخروج إلى مناطق آمنة.

ولفت بيان للمنظمة إلى جرائم تصفية وتعذيب واعتقال على أساس عرقي وحرق وتمثيل بالجثث وقعت بالمدينة. وحذر من رواج لخطابات كراهية وعنصرية وحملات اعتقالات بولاية الجزيرة وولايات آمنة أخرى كتصعيد خطر للغاية بالتوازي مع إعلان حالة طوارئ في جميع الولايات.

ما بعد ود مدني

في السياق اعتبر المحلل العسكري إسماعيل يوسف دخول قوات “الدعم السريع” إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، ذات الثقل الاقتصادي والكثافة السكانية الثانية بعد العاصمة، تحولاً نوعياً خطراً في مسار الحرب واستهدف تكثيف أقصى الضغوط على الجيش عبر طاولة المفاوضات.

وتوقع يوسف أن يتبع سقوط ود مدني متغيرات على مستوى المسارين العسكري الحربي والسياسي التفاوضي، فهي من الناحية السياسية قد يحرك جمود مفاوضات منبر جدة بوضع مزيد من الضغوط الميدانية على الجيش لصالح تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في جدة وقمة (إيغاد) الطارئة الأخيرة.

أما عسكرياً بحسب المحلل السياسي فإن الوضع العسكري الجديد سيفسح المجال أمام قوات “الدعم السريع” للتمدد شرقاً بكل سهولة باتجاه سهل البطانة وصولاً إلى ولايات القضارف المتاخمة للحدود الإثيوبية، وسيضع كل من مدن كسلا وبورتسودان ضمن مرمى أهدافها، وستكون ولاية سنار جنوباً أقرب محاور الاستهداف القادم، فضلاً عن أن ود مدني هي الرئة التي تتنفس بها بورتسودان وتختنق من دونها، وعبرها تتكامل خطوط الإمداد لـ”الدعم السريع” بسيطرته على طول امتداد خط أنابيب البترول ومفاتيح الطرق القومية.

وكانت قوات “الدعم السريع” قد جددت هجومها على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة لليوم الرابع على التوالي، متجاهلة كل التحذيرات والمناشدات المحلية والدولية وسط تضارب الأنباء وعديد من مقاطع الفيديو للطرفين المتقاتلين، يؤكد فيها كل منهما سيطرته على المدينة.

و أعلن قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان حميدتي، اليوم الثلاثاء، سيطرة قواته على مدينة “ود مدني” وقيادة الفرقة الأولى التابعة للجيش بالمدينة.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد