تسليح المدنيين : تعقيدات جديدة في صراع السودان

متابعات دارفور : السودان

تتصاعد الدعوات إلى تسليح المدنيين في السودان مع تقدم قوات الدعم السريع في اتجاه الجنوب ، و يلوح في البلاد شبح الحرب الأهلية بعد ثمانية أشهر من النزاع الدامي على السلطة بين تلك القوات وبين الجيش.

فبعد أن استولت قوات الدعم السريع على أجزاء كبيرة من ولاية الجزيرة وسيطرت على العاصمة ود مدني، واصلت تقدمها في اتجاه الجنوب وسيطرت على عدة مناطق في ولاية سنار المجاورة.

ويشكو مواطنون سودانيون من “انتهاكات” ارتكبتها قوات الدعم في مناطق الجزيرة ويخشون تكرارها.

المقاومة الشعبية المسلحة

وأطلقت مجموعات تسمي نفسها “المقاومة الشعبية المسلحة” دعوات لتسليح المدنيين في ولايات النيل الأبيض ونهر النيل والقضارف الشمالية وكسلا والبحر الأحمر وهي كلها مناطق خاضعة لسيطرة الجيش.

أما قوات الدعم السريع فتدعو من يشاء من سكان المناطق التي يسيطر عليها إلى التطوع لديها لتسلحيهم ، وتقول إن الهدف هو أن يحمي هؤلاء مناطقهم.

وفي إحدى قرى شرق الجزيرة قال مواطن، طلب عدم الإفصاح عن هويته، إن “قوات الدعم السريع تسلح عددا من الشباب في كل قرية باسم حماية قريتهم وتسلمهم بنادق كلاشينكوف وعربة أو أكثر بحسب حجم القرية”.

وفي مدينة شندي بولاية نهر النيل، الواقعة على بعد 150 كيلو متر شمالي الخرطوم، دعا محمد بدوي والي الولاية السكان الأسبوع الماضي الى الانخراط في العمل العسكري وقال”سندرب الشباب علي حمل السلاح والدفاع عن الأرض والعرض وحماية أهلهم من التمرد”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع.

وفي مدينة سواكن بولاية البحر الأحمر الواقعة شرقي البلاد، قال محمد الأمين زعيم قبائل البجا أمام حشد من أبناء قبيلته “نحن جاهزون لحمل السلاح لدحر” قوات الدعم السريع. وتفيد إحصائية رسمية صدرت عام 2018 أن هناك خمسة مليون قطعة سلاح في حوزة المدنيين بمختلف مناطق البلاد.

مواطنون يحملون الاسلحة الثقيلة و يعلنون مساندتعم للجيش السوداني

“خطوات كارثية”

وتثير هذه الدعوات والتحركات مخاوف من توسع دائرة الصراع وتحوله إلى حرب أهلية. وقال مسؤول أمني سوداني طلب عدم ذكر اسمه “هذه خطوات كارثية في بلد يعاني أصلا من انتشار السلاح. فكأنما تزيد النار حطبا… هذه مجموعات تحصل علي السلاح ولا أحد يضمن كيف ستستخدمه ولأي أغراض.”

تسليح المدنيين يطيل أمد الصراع

وانتقد شريف محمد عثمان القيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير، الكتلة المدنية الرئيسية في السودان، هذه الخطوات وقال إن “الموقف الأخلاقي والقيمي هو حث الأطراف على إنهاء الحرب وليس دفع المواطنين إلى المقاومة الشعبية والحشد العسكري ورفع وتيرة القتال لأن هذا سيطيل أمد الحرب” التي أسفرت عن مقتل أكثر من 12 ألف سوداني ونزوح ما يزيد عن 7 ملايين، وفق الأمم المتحدة.

ولدى السودانيين تجارب في تسليح المدنيين أدت إلي تأجيج الصراعات، كما حدث في إقليم دارفور غربي البلاد غداة اندلاع القتال عام 2003 والذي أدى إلى مصرع 300 ألف شخص ونزوح 2.5 مليون عن ديارهم. وفقا للأمم المتحدة.

تطور الاستراتيجيات

تبدأ المقاومة الشعبية عادةً بنوايا طيبة في الدفاع عن النفس، وقد تخطئ في فهم ما يحدث بين أبناء البلد الواحد، نتيجة للخلط بين تطبيق استراتيجيتي العنف واللاعنف لحماية الدولة.

ولم يكن تطور أساليب واستراتيجيات المقاومة مختلفاً عن النضالات الأخرى التي خاضها السودانيون من قبل، ولكن هذه المرة يجهل كثيرون أسباب اشتعال الحرب الحالية.

وفي الحقيقة قد لا يكون سببها واحداً يمكن التمسك به لمعرفة كيفية التعامل معه، ولكن قد تكون خليطاً من أسباب عدة، هي الطموح الشخصي بالرئاسة لكلا الجنرالين، (قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو) خصوصاً أن أحدهما في موقع رئيس مجلس السيادة (البرهان) والآخر في موقع نائبه (دقلو).

وقد تكون أيضاً للرغبة في إزالة العسكر عن السلطة، ولكن تم ذلك بالطريقة الخطأ وهو الاستعانة بمكون عسكري لإزالة الآخر.

وهذه تحدث بشكل آخر في حالة الانقلابات العسكرية عندما يتحرك حزب سياسي ويدعم خلايا نائمة في الجيش لتنفيذ انقلاب ما، ثم يستولي على السلطة من خلال هذه الواجهة العسكرية.

وقد تكون “المقاومة” أيضاً نتيجة لأطماع خارجية إن لم تكن تتعلق بالسودان وأرضه وموارده الطبيعية، فإنها ربما تتعلق بموقعه وسط مصالح إقليمية أخرى قد يعيق وجود نظام حكم معين التعامل معها، وقد تكون غير ذلك.

لاعب جديد

وتعلقا على هذه التطورات، يقول السياسي والأكاديمي ناجي مصطفى بدوي إن المقاومة الشعبية “لاعب جديد وثقيل نزل للساحة”، إذ يتميز بالاستقلالية ويساند القوات المسلحة وينتظم معها، لكنه سيختار المواجهة والإقدام في كل الأحوال، وسيمنع الانتهاكات والتهجير.

ويقلل بدوي من التحذيرات من تمهيد المقاومة حربا أهلية بتأكيد أن مروجي تلك الأفكار سياسيون يتبعون قوى الحرية والتغيير التي يصفها بـ”العميلة للتمرد”، ولديهم تفاهمات معها ليشاركوها الحكم إذا انتصرت.

ويردف “هذه القوى السياسية تخشى انكسار التمرد أمام المقاومة الشعبية، ولا يمكن وصف ما يقوم به التمرد بغير الحرب الشاملة والعرقية لأنها تستهدف الإنسان والبيئة والاقتصاد والتاريخ والأمن الغذائي والمائي”.

في المقابل، يتكهّن المتحدث باسم تحالف القوى المدنية لشرق السودان صالح عمار بفشل المقاومة الشعبية، ويستحضر -في حديثه حملة الاستنفار للحرب التي قادها عناصر النظام السابق قبل اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل/نيسان الماضي، حين أعلنوا استعداد 200 ألف مجند للمشاركة مع القوات المسلحة السودانية، “لكن بعد إطلاق أول رصاصة اختفوا واختبأت قيادتهم”.

ويقول إن دعاة المقاومة الشعبية الحالية “هم عناصر النظام السابق وأعضاء المؤتمر الوطني الذي حكم السودان 30 عاما وصنع الدعم السريع”.

ويؤكد عمار أن أهداف هذه المقاومة “هي نشر الفوضى لأنهم يرون تمدد قوات الدعم السريع في مساحات واسعة ولا يريدون أن تتولى الحكم”، لافتا إلى خطورة “الزج بشباب يافع في معركة غير متكافئة مع قوات مدربة ومؤهلة ولديها قدرات تسليح عالية وخبرات قتالية”.

حشد المقاومة الشعبية

بدوره، يرفض عضو مجلس السيادة السابق القيادي بالحرية والتغيير محمد الفكي تأييد دعوات المقاومة الشعبية، قائلا إنها ‏”دعوة حق أريد بها باطل”، وتتغذى بالأساس من مخاوف المدنيين الذين تركتهم دولتهم دون حماية في مواجهة انتهاكات واسعة.

ويرى أن خطاب الاستنفار في جوهره أصل الحرب “لأن العملية بأكملها يديرها فلول النظام السابق”.

وطالب الفكي، في منشور على منصة “إكس”، القوات المسلحة بإصدار بيان واضح بشأن خطوات التسليح الجارية الآن، ومن يقوم بها؟ وكيف سيُجمع هذا السلاح مستقبلا؟ ويردف “ما يحدث الآن يؤكد أن إيقاف الحرب واجب لا يقبل التأجيل قبل أن نصل مرحلة الحرب الأهلية الشاملة”.مسؤولون في حكومة القضارف شرقي السودان يؤازرون المقاومة الشعبية (الجزيرة)

بيعة الموت

وفي شرقي السودان، أعلنت قبائل في منطقة الفشقة الحدودية مع إثيوبيا انطلاق المقاومة الشعبية، ونظمت حشدا كبيرا هذا الأسبوع خاطبه ناظر عموم قبيلة اللحوين عيد الزين، وقال إن “الانتهاكات الجسيمة” التي ارتكبتها قوات الدعم كانت الدافع للخروج.

وأعلن الناظر تقديم 20 ألفا من شباب القبيلة لما أسماها معركة الكرامة والدفاع عن الوطن والشرق، كما قدم “بيعة الموت” لقائد الجيش باسم اللحوين في السودان. وشدد على أن المقاومة الشعبية هي التي ستحسم المعركة.

ويؤكد المدير التنفيذي لمحلية الفشقة عز الدين الإمام -للجزيرة نت- انطلاق المقاومة الشعبية من المنطقة الحدودية مع إثيوبيا، قائلا إنها سبق أن خاضت القتال والمعارك العسكرية لاسترداد المنطقة من الإثيوبيين بعد 25 عاما من احتلالها.

وأعلن مسؤولون في حكومة القضارف عن استمرار فتح المعسكرات والمقاومة الشعبية والاستنفار وتوفير السلاح والتدريب القتالي والمتقدم عبر حكومة الولاية ولجنة الأمن، كما شهدت القضارف أمس الاثنين تجمعا كبيرا لمؤيدي المقاومة.

ويعتبر المحلل السياسي الطاهر ساتي أن المقاومة التي وصلت مرحلة التنفيذ هي رد فعل شعبي لما فعلته “المليشيا” (الدعم السريع) في مناطق انتشارها. ويرى فيها “ولادة طبيعية” بتداعي وطني تلقائي من كل أهل السودان بعد الإفاقة من هول الصدمة، مؤكدا عدم قدرة أي واجهة سياسية أو تنظيمية على تبنيها، فهي “غضبة حليم الشعب”، وفق تعبيره.

ويتحدث ساتي -للجزيرة نت- عن أن غالبية شباب السودان تدربوا على السلاح عبر الخدمة الوطنية والدفاع الشعبي والآن يتدربون في معسكرات المستنفرين بإدارة القوات المسلحة، ويرى في تلك المقاومة حملة شعبية بمثابة الترياق لحملة “المليشيا” التي تستنفر أفرادها بالداخل ثم تجلب “عربان الشتات” من خارج السودان، وتحديدا من تشاد وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى.

ويقول “الشعب عندما شعر بهذا الغزو الأجنبي نهض ليصد العدوان، فهي حرب على مليشيا مدعومة من دول عربية وأخرى أفريقية”.

ويعدّها الشاب أحمد مجاهد -الذي قرر حمل السلاح والانضمام للمقاومة الشعبية- فرصة جيدة للدفاع عن منطقته وأهله في الولاية الشمالية. ويقول للجزيرة نت إنه تطوّع للمقاومة بعد تمدد قوات الدعم السريع وزيادة هجماتها على المدن “وما تفعله عناصرها من قتل ونهب واعتداءات على المواطنين العزل”.

ورغم رفضه الرأي الذي يتحدث عن نذر حرب أهلية، يبدي مجاهد بعض المخاوف من الأمر وتحول المقاومة إلى عملية انتقامية ضد الأعراق والأجناس السودانية المختلفة.

استهلاك سياسي

يرى المحلل السياسي محمد إدريس النعيم أن مقاومة الحرب تتمثل في وقفها بدلا من توسعتها بما يصب في مجرى تقسيم السودان على أسس عرقية وجهوية في ظل تنامي خطاب الكراهية ودعوات العنصرية على كل المنصات “التي يقودها أنصار وإعلاميو النظام السابق”.

ويقول النعيم للجزيرة نت إن عدد المستنفرين غير معروف، وإن الجهات التي أمدّتهم بالسلاح غير معروفة، مما يجعل تداول أرقام بشأنهم عرضة للاستهلاك السياسي.

ووجه العميد المتقاعد الطيب نجم الدين اتهامات مبطّنة لقادة الجيش بالفشل في إدارة المعركة مع قوات الدعم السريع. واعتبر -في حديثه للجزيرة نت- أن المقاومة الشعبية فكرة جيدة لا تتوفر ظروفها في الوقت الحالي مع حالة الاستقطاب الحاد الذي يسيطر على المشهد السوداني، محذرا من مغبة تسليح المجتمع السوداني في ظل هذه الظروف.

وقال إن الغموض الذي يحيط بعملية التسليح والجهة التي تشرف عليها من غير القوات المسلحة السودانية، أمرٌ يدعو للشك والخوف معا، لأن العملية تتم حاليا بواسطة حكومات الولايات وولاتها في ثوب مغطى بالأجندات السياسية لجماعة معينة تقود هذه الحملة.

تسليح المواطنين بسنار

جبريل يتحدث عن تسليح الشعب والمقاومة الشعبية

و قال وزير المالية رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم أن الذين يرفضون تسليح الشعب يريدونه أعزل لا يقوى على الدفاع عن نفسه وعرضه وماله.

واضاف ابراهيم في تغريدة على x ، أن ضبط وتنظيم المقاومة الشعبية مهم ولكن لا مناص من التسليح مادام هناك من يستهدف الشعب الأعزل”

محاولات دبلوماسية متعثرة

في هذه الأثناء يستمر تعثر الجهود الديبوماسية لعقد لقاء بين الطرفين المتصارعين قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع، بسبب إصرارهما على موقفيهما.

وكان القائدان قد قبلا قبل أسبوع دعوة للاجتماع في جيبوتي ، وجها لوجه، من الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (إيغاد). لكن اللقاء تأجل بسبب عدم تمكن حميدتي من الوصول إلى جيبوتي لعقد اللقاء لأسباب فنية طبقا لبيان وزارة الخارجية في جيبوتي.

ويقول البرهان إن الطريق نحو إنهاء الحرب يمر عبر خروج قوات الدعم السريع من المدن السودانية وولاية الجزيرة، وعودة الممتلكات المنهوبة وهو ما يرفضه حميدتي .

تكلفة الحل

بالنظر إلى الوضع الحالي في السودان، فإن توقع ظهور حالة من المقاومة السلمية سيكون ضعيفاً مع حالة الاحتقان الشعبي، إذ يُتوقع أن تتحول إلى مقاومة عنيفة، تكون بذرة أيضاً لميليشيات قبلية أو جغرافية مناطقية، وبهذا لا يمكن أن تتعايش المقاومة السلمية مع العنيفة، وتتوحد من أجل هدف واحد.

وتعبر الجغرافيا السياسية الجديدة لحكومة الأمر الواقع الوشيكة، عن أن السودانيين كمجتمع متماسك ووحدة جغرافية موحدة لم يعد لها وجود.

يبقى الجدل الآن في شأن ما يمكن أن تقع بعض إجراءات المقاومة خارج قواعد القانون، ويعتمد ذلك على مدى فاعلية معظم القوانين وتعريفاتها، وأن تقع قوات المقاومة ضمن تعريف المقاتلين، وليس الإرهابيين، طالما أنها تحترم اتفاقيات جنيف.

بطبيعة الحال، فإن الحلول بيد الجيش المتمثلة في الاستنفار الشعبي يمكن أن توِّلد مشاكل أخرى، ويمكن أن تؤدي من خلال نهج أكثر عدوانية في المناطق التي يسيطر عليها “الدعم السريع”، إلى توليد قضايا أخرى في نهاية المطاف، مما يؤدي بدوره إلى زيادة عزلة السودان وتحوِّله إلى منطقة نزاع دائم.

وعلى رغم من السيطرة السابقة لنظام البشير بقبضته القوية على مكافحة الحركات المسلحة المتمردة، فإن استعانة مؤسسة الجيش أيضاً في هذه الحرب بالمقاومة الشعبية، يزيد من تكلفة الحل لإيقافها.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد