رحلة إلى قاع المتوسط: السودانيون.. الضحايا غير المرئيين لأخطر طرق الهجرة

متابعات دارفور: انعام النور 

لم تعد مأساة البحر وحدها هي التي تطارد السودانيين الهاربين من فوضى الحرب، إذ أصبح الخروج من السودان رحلة عبر طبقات متتالية من الخطر، تبدأ بالرصاص وتنتهي إمّا تحت الماء، أو خلف قضبان الاحتجاز، أو في صمت المخيمات.

فبعد أيام من حادثة الغرق قرب حقل البوري التي ابتلعت أكثر من اثنين وأربعين سودانياً، برز فصل جديد من الكارثة في الجبل الأخضر، حيث أوقفت السلطات الليبية تسعةً وعشرين سودانياً ورحّلتهم إلى مركز احتجاز في قنقودة تمهيداً لإعادتهم قسرياً إلى وطنٍ لم يعد يصلح للعودة.

الحادثتان، رغم اختلافهما، تكشفان المصير نفسه: موت يتربص بالسوداني أينما سار.

في الثامن من نوفمبر 2025 ، على بعد أميال من حقل البوري النفطي قبالة السواحل الليبية، كان البحر يكتب فصلاً جديداً من المأساة السودانية. قارب مطاطي صغير انقلب بعد ساعات من خروجه من مدينة زوارة، حاملاً على متنه 49 شخصاً: 47 رجلاً وامرأتين. لم يكن البحر بالنسبة لهؤلاء حدوداً بين قارتين، بل خطاً أخيراً بين احتمال الحياة ومؤكدية الموت.

ستة أيام فوق الهاوية

و وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، لم ينجُ من هذه الرحلة إلا سبعة رجال فقط، أربعة منهم من السودان، واثنان من نيجيريا، وواحد من الكاميرون، بينما فُقد 42 شخصاً يُفترض أنهم لقوا حتفهم، بينهم 29 سودانياً وثمانية من الصومال وثلاثة من الكاميرون واثنان من نيجيريا.

كانت الأمواج العالية قد عطّلت المحرك بعد حوالي ست ساعات من مغادرة القارب للشاطئ، قبل أن ينقلب فجأة ويلقي بكل من عليه في قلب المتوسّط.

ستة أيام كاملة ظلّ الناجون يتشبّثون ببقايا القارب وبقطع بلاستيكية عائمة، وبعضهم تشبّث بيد صديقٍ أو قريبٍ قبل أن تنزلق اليد وتغيب عن السطح. وعندما وصلت فرق البحث والإنقاذ أخيراً، لم تجد سوى سبعة رجال منهكين، أجسادهم محروقة بالشمس وملوحة الماء، وأعينهم تلاحق الفراغ كما لو كانوا يبحثون عن الأرواح التي سقطت من حولهم.

يقول أحد الناجين السودانيين: “في اليوم الأول كنا نصرخ وننادي، في اليوم الثاني بقينا نهمس، لدرجة اننا لم نعد نتكلم. البحر كان بيختار واحد تقريباً كل ساعة تسمعي صوت زول بيغرق، وبعدين بس في صمت. واحد من الشباب قبل ما يفلت من القارب قال لينا: لو غرقت هنا، قولوا للحرب في السودان إنها لحقتني لحدى البحر”

غرق عشرات السودانيين في مياه البحر المتوسط

هذه الحادثة ليست استثناءً، بل جزء من منحنى قاتم. المنظمة الدولية للهجرة تؤكد أن عدد المهاجرين الذين غرقوا أو فُقدوا في وسط المتوسط عام 2025 تجاوز حاجز الألف شخص قبل نهاية العام، بينما سجّل عام 2024 وحده أكثر من 2,450 حالة وفاة أو اختفاء في البحر المتوسط بأكمله، مع تركّز الغالبية في الطريق الأوسط بين ليبيا وتونس وإيطاليا.

وعلى هذا الطريق تحديداً، سجّلت مشاريع رصد المهاجرين المفقودين أكثر من 25,000 وفاة منذ عام 2014، ما يجعله أخطر طريق هجرة بحري في العالم.

بالنسبة للسودانيين، لم يعد هذا الطريق مجرّد مخاطرة، بل تحوّل إلى ما يشبه “الفرصة الأخيرة” في مواجهة حرب أحرقت المدن والقرى وأفقدتهم الوطن والدخل والمعنى.

البحر كامتداد للحرب

في إحدى الضواحي الفقيرة على أطراف مدينة الجنينة في غرب دارفور، تجلس والدة أحد المفقودين، الشاب مصعب (23 عاماً)، ممسكة بهاتفها كأنه حبل نجاة وحيد. على الشاشة صورة لابنها يرتدي قميصاً بسيطاً ويبتسم بخجل. تقول بصوت متهدّج:

 “هو ما كان داير يمشي أوروبا عشان الرفاهية. كان داير يمشي أي مكان ما فيهو حرب آخر اتصال قال لي: يا أمي لو البحر بلعني، ما تقولي هاجر… قولي الحرب قتلتو بطريقة تانية. هسع لا عندنا جسد ندفنو، ولا قبر نزورو، ولا حتى ورقة بتقول لينا الحصل شنو.”

و في مخيم للاجئين بشرق تشاد ، تجلس خديجة، أخت شاب آخر فُقد في البحر، وتحاول أن تشرح كيف تقاس الخسارة:

 “أخوي بقى راجل البيت بعد ما أبونا مات. حاول يشتغل هنا وهناك، لكن الحرب كسرت كل شيء. لما قرر يمشي ليبيا، قال لينا: أمشي أجرب البحر… يمكن يكون أرحم حسيت وقتها إنو دا قرار ما فيهو رجعة. لكن برضو خليناه يمشي… يمكن لأنو ما كان في خيار تاني.”

ليس هذا الحادث الوحيد الذي استهدف سودانيين بعيداً عن شواطئ بلادهم. ففي سبتمبر 2025، اشتعل قارب مطاطي قبالة سواحل طبرق في شرق ليبيا، كان يقل 74 لاجئاً سودانياً، ما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 61 منهم بحسب تقارير دولية.

وفي كل مرة، تصبح أخبار الغرق مجرد سطر جديد في إحصائيات متضخمة، بينما تبقى أسماء الضحايا وملامحهم حبيسة ذاكرة الأمهات والأخوات والأطفال.

أحد الناجين من حادثة حقل البوري يروي تفاصيل الساعات الأخيرة قبل الإنقاذ:

“لما الشمس كانت تطلع، البحر كان يصبح مرآة قاسية. نشوف وجوهنا ضعيفة، وشفايفنا ناشفة، والملح عامل طبقة على جلدنا. في اليوم الرابع، واحد من الشباب السودانيين، كان اسمو عبد الرحيم، قال: أنا تعبت… لو نجيتوا، قولوا لأهلي ما كنت جبان، بس كنت تعبان. بعد أقل من ساعة، ما لقيناه. البحر ما بيرجع الزول لما يخطفه.”

يتحوّل البحر هنا إلى امتداد للحرب؛ كلاهما يطارد السوداني أينما ذهب، وكلاهما لا يعترف ببراءة المدنيين ولا بحلم البقاء على قيد الحياة.

امتداد المأساة: الاحتجاج أمام مفوضية اللاجئين… صرخة أخرى من قلب العالقين

لم تكن حادثة الغرق ، ولا اعتقال السودانيين هي الفصول الوحيدة في هذه المأساة. فبين الموت في البحر والموت في مراكز الاحتجاز، يقف آلاف السودانيين العالقين في ليبيا في منطقة رمادية لا تشبه الحياة ولا تشبه الموت، بلا حماية، بلا حلول، وبلا أفق.

وأمام مقر مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في طرابلس (UNHCR Libya)، خرجت مجموعة من العائلات والنساء من طالبي اللجوء السودانيين المسجّلين لدى المفوضية في وقفة احتجاجية نادرة، عبّروا فيها عن الغضب ذاته الذي يسكن الناجين والمحتجزين والغرقى على حدّ سواء: غضب من الإهمال، ومن تجاهل العالم، ومن بقاء مصيرهم معلّقاً في بلد لا يعترف باللجوء ولا يوفر الأمن.

احتجاجات للسودانيين في ليبيا

وسلّم المحتجون رسالة احتجاج رسمية لمكتب المفوضية تضمّنت مطالب عاجلة وواضحة:

الإسراع في البتّ بملفات إعادة التوطين خارج ليبيا، و تحسين آليات التواصل، و رفض سياسة إبقائهم في بلد غير آمن، وتوفير حماية خاصة للنساء والأطفال الذين يواجهون خطراً مضاعفاً في الشوارع والمراكز.

وهم يقفون أمام بوابة المفوضية، تحدثت امرأة تحمل طفلين قائلة: “مافي شخص مسؤول عن حياتنا و عن مستقبل أولادنا؟ نحن هنا في ليبيا ما محميين، وما قادرين نرجع السودان، وما قادرين نمشي لقدام. نحن بس دايرين الأمم المتحدة تتحرك.”

برغم أن هؤلاء المحتجين لم يركبوا البحر، إلا أنهم يعيشون ذات المصير الذي عاشه الغارقون قبلهم. فالبقاء في ليبيا يعني مواجهة خطر الاعتقال، الابتزاز، الإبعاد القسري، أو الاختفاء في مراكز الاحتجاز التي لا يعرف أحد عددها الحقيقي. أما العودة إلى السودان فتعني العودة إلى خطوط النار. وأما الانتظار تحت “رعاية” المفوضية فهو انتظار بلا نهاية.

الناشط في حقوق الإنسان صدام إبراهيم يقول: ان احتجاج السودانيين أمام مقر المفوضية لم يكن مجرد تجمع عابر، بل كان امتداداً طبيعياً للحكاية نفسها , حكاية السوداني الذي يموت في كل الطرق , يموت إن غرق، ويموت إن اعتُقل، ويموت إن تُرك في الإهمال.

ويضيف إبراهيم “في هذه الصورة الواسعة، يبدو أن أقسى ما يواجهه السودانيون اليوم ليس البحر وحده، ولا السجون وحدها، بل صمت العالم الذي يراقبهم وهم يتنقلون بين مقابر مفتوحة على اليابسة ومقابر مفتوحة في البحر، دون أن يفتح لهم باباً واحداً للحياة.

من زوارة إلى قنقودة: الناجون من الغرق أسرى على اليابسة

لو انتهت المأساة عند هذا الحد لربما أمكن وصفها بأنها “حادثة مأساوية أخرى” على طريق الهجرة، لكن ما يجري بعد النجاة من الغرق لا يقلّ قسوة. فبعد أيام من حادثة البوري، أعلن جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا عن توقيف مجموعة من اللاجئين السودانيين في قطاع الجبل الأخضر، وقال في بيان رسمي إنه تم ترحيل 29 شخصاً إلى مركز احتجاز في منطقة قنقودة ببنغازي، تمهيداً لإعادتهم إلى السودان، بعد اتهامهم بممارسة التسول.

هؤلاء ليسوا أرقاماً في بيان أمني، بل وجوه حقيقية خرجت من خرائط الحرب ذاتها. بعضهم نجا من القتال في الفاشر، وآخرون من حرق القرى في دارفور أو من الانهيار الاقتصادي في الخرطوم ومدن الوسط. فجأة وجدوا أنفسهم محشورين في شاحنات عسكرية، من الشوارع إلى مراكز الاحتجاز، ومن حالة “هارب من الموت” إلى حالة “مخالف للقانون”.

تشرح خديجة، من نيالا، كيف تلقّت خبر اعتقال شقيقها: “كنا منتظرين اتصال عشان نطمن أنه وصل أوروبا أو على الأقل لقي شغل في ليبيا. فجأة جتنا رسالة من زول ما بنعرفه، قال لينا: أخوكم في قنقودة، قبضوهم بتهمة التسول. أمنا انهارت. قالت: ولدي ما كان شحات… ولدي كان داير لقمة عيش حلال”.

المنظمات الدولية توثق صورة أكثر قتامة عن مراكز الاحتجاز الليبية. تقارير حقوقية تشير إلى أن اللاجئين والمهاجرين في ليبيا يواجهون احتجازاً تعسفياً وضرباً وانتهاكات جسدية ونفسية، مع نقص حاد في الطعام والماء والرعاية الصحية، إلى جانب اكتظاظ شديد وسوء في المرافق الصحية.

وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، تم رصد 18 مركز احتجاز رسمي للمهاجرين واللاجئين تحت سيطرة أجهزة الأمن الليبية حتى نهاية 2024، في حين تتحدث تقارير أخرى عن مراكز غير رسمية تحت سيطرة جماعات مسلحة.

شهادة مسربة من داخل قنقودة جاءت في رسالة صوتية قصيرة أرسلها أحد المحتجزين إلى عمّه: “نحن قاعدين في زريبة، ما مركز في ضرب، في إهانات، في سبّ طول اليوم. في ناس مريضة، في ناس ما لاقية دواء. الزول البتكلم ياخدوه برة. لو رجعونا السودان، قولوا لأمي تجهز لي قبر… أنا ما شايف أي حياة منتظراني هناك.”

تتزامن هذه الوقائع مع مؤشرات أخرى على تشديد القبضة على المهاجرين في ليبيا. تقارير تحليلية تشير إلى أن الأشهر التي تلت نقاشات بين الاتحاد الأوروبي وليبيا حول الهجرة في يوليو 2025 شهدت ارتفاعاً في حملات المداهمة والاحتجاز، من بينها حملة واحدة في يوليو نفسه تم فيها اعتقال حوالي 1,500 مهاجر وعامل دون وثائق، معظمهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء.

في الوقت نفسه، تتضخم أعداد السودانيين العالقين داخل ليبيا. تقدّر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أنه بحلول نهاية 2024 كان هناك أكثر من 210,000 لاجئ سوداني قد وصلوا إلى ليبيا بعد اندلاع الحرب في بلادهم، ضمن أكثر من 250,000 لاجئ وطالب لجوء من مختلف الجنسيات يعيشون في ظروف هشة في البلاد.

وبرغم هذا العدد الضخم، لا تزال الخيارات القانونية أمامهم شبه معدومة؛ ففي عام 2025 مثلاً، لم يتجاوز عدد اللاجئين الذين حصلوا على حلول دائمة (مثل إعادة التوطين) من ليبيا بضع مئات، من بينهم عدد محدود جداً من السودانيين.

أحد العاملين في الإغاثة بليبيا، طلب عدم ذكر اسمه، يصف الوضع هكذا: “السودانيون في ليبيا عالقون بين ثلاث جبهات: الحرب في بلدهم، والعنف في الطريق، والاعتقال هنا. ما في نظام لجوء حقيقي، وما في ضمانات. في النهاية، إما يرجعوا قسراً للموت في السودان، أو يغامروا بالبحر مرة تانية، أو ينتهوا في مراكز احتجاز ما بتطلع منها أخبار.”

يضيف مهاجر نيجيري التقى بمجموعة من السودانيين في أحد مراكز الاحتجاز السابقة: “السوداني بالنسبة للكثيرين هنا ‘صيد سهل’. ما عنده سفارة فعالة، وما عنده دولة تحميه، وما عنده فلوس يدفعها زي غيره. يتشال من الشارع، ينضرب، يدخل في عنبر، وبعدين يختفي. في ناس تطلع بدفع فدية، وفي ناس ما بنسمع عنهم تاني.”

وفي مواجهة هذه الحلقة المفرغة، لا تملك الأسر في السودان إلا الانتظار والقلق. في أحد مخيمات اللاجئين بالقرب من منطقةطينة التشادية ، تقول أمّ فقدت ابنها في البحر وتخشى أن تفقد الآخر في مركز احتجاز: “نحن بقينا نمشي بين خيم الناس نسأل: سمعتو باسم فلان؟ في زول شايفو في ليبيا؟ في زول شافو في الطريق؟ ما في أي جهة بتدينا إجابة. الحرب شالت بيتنا، والبحر شال ولدنا، والحبس يمكن يشيل التاني. نحن بس دايرين مخرج حياة واحد لأولادنا… واحد بس.”

أرقام تفضح صمت العالم

خلف هذه القصص، تمتد خريطة أوسع للأرقام القاسية. منذ عام 2014، سجّل مشروع “المهاجرون المفقودون” التابع للمنظمة الدولية للهجرة أكثر من 72,000 حالة وفاة على طرق الهجرة حول العالم، كان البحر المتوسط أحد أكثرها دموية، خاصة في مساره الأوسط بين ليبيا وإيطاليا.

غرق مركب في البحر المتوسط

في عام 2024 وحده، قُتل أو فُقد أكثر من 2,200 شخص في المتوسط وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا، كثير منهم من السودان ودول إفريقية أخرى تمزقها الحروب والتهميش.

ورغم هذه الأرقام الصادمة، لا يزال الرد الدولي أقل بكثير من حجم المأساة. بدلاً من فتح ممرات آمنة أو توسيع برامج إعادة التوطين، تتجه السياسات في كثير من الأحيان إلى تشديد الرقابة، وتمويل الحواجز البحرية، وعقد اتفاقات لردع القوارب وإعادة من يتم اعتراضهم إلى ليبيا، حيث ينتظرهم الاحتجاز والابتزاز وخطر الإعادة القسرية.

تتعامل كثير من الحكومات مع الغرق باعتباره “تكلفة جانبية” لسياسات الردع، ومع احتجاز السودانيين في ليبيا بوصفه “ملفاً أمنياً” لا إنسانياً. لكن الأمهات في السودان لا ينظرن إلى الأمور بهذه الطريقة. بالنسبة لهن، كل رقم هو اسم، وكل حادثة غرق هي بيتٌ انهار للمرة الثانية، وكل مركز احتجاز هو مقبرة مؤجلة لأبنائهن.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد