السودان… خريطة الميليشيات واتساع دوامة السلاح

متابعات دارفور: السودان

منذ نيل السودان استقلاله في عام 1956، لم تنعم البلاد بالسلام طويلاً، إذ ما إن تهدأ حرب حتى تشتعل أخرى في مكان مختلف. ومع تراكم عقود من النزاعات، تشكّلت عشرات الميليشيات وتوسع انتشار السلاح على نحو غير مسبوق، حتى قدّر بعض المراقبين عددها بأكثر من 110 ميليشيات، تتفاخر بقوتها وتحاول فرض نفوذها على الأرض.

وخلال الحرب الدائرة منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، توزّعت ولاءات تلك الميليشيات بين الطرفين، بينما استغل بعضها حالة الفوضى لتحقيق مصالح خاصة لزعمائها أو لمناطقها. لكن الأخطر أن هذه المجموعات لا تتحرك بدوافع موحدة؛ بل تتقاطع مصالحها الجغرافية والقبلية والأيديولوجية، ما ينذر بإعادة إنتاج حروب جديدة حتى بعد توقف القتال الحالي.


مستنقع الميليشيات

يصف الكاتب أمير بابكر في كتابه «سلام السودان… مستنقع الميليشيات والجيوش شبه النظامية» المشهد بأنه «انفجار غير مسبوق في عدد المجموعات المسلحة»، مشيراً إلى أن 92 حركة كانت ناشطة عند اندلاع الحرب، 87 منها في إقليم دارفور وحده. كما تنشط فصائل أخرى في ولايات كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، ما يعقّد مسارات الحرب ويطيل أمدها.

أما الناشط السياسي مهند الزعيم، فيرى في تدوينة له أن نحو 90 ميليشيا تنشط حالياً، موزعة بين الجيش و«الدعم السريع»، وفقاً لانتماءات جغرافية أو أيديولوجية، بينما يسعى بعضها لتكوين تكتلات جديدة تفتح له الطريق ليصبح القوة المهيمنة مستقبلاً.


أنواع الميليشيات وتوجهاتها

تتوزع الميليشيات السودانية على خريطة معقدة من الولاءات؛ فبعضها يقاتل إلى جانب الجيش، وأخرى تساند «قوات الدعم السريع»، بينما تظل فئة ثالثة في موقع الحياد بعد أن خاضت حروباً مطلبية ضد النظام السابق.
وتتنوع هذه المجموعات بين أيديولوجية وقبلية وجهوية، كما توجد تشكيلات مسلحة نشأت من رحم الجريمة المنظمة واستغلت الحرب لتوسيع نشاطها في النهب والابتزاز والقتل على الهوية والاغتصاب.
وبينما تحالفت بعض الحركات التي كانت في السابق تقاتل الجيش معه اليوم ضد «الدعم السريع»، بقيت أخرى على الحياد، مما يعمّق حالة التشظي داخل المشهد العسكري.

رسم بياني يظهر خرائط النفوذ على الأرض في السودان 

دارفور… معقل الميليشيات الكبرى

يُعتبر إقليم دارفور أكبر مركز لتجمع الحركات المسلحة في السودان. أغلب هذه الحركات اختار التحالف مع الجيش تحت مظلة «القوة المشتركة»، ومن أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، إضافة إلى فصائل أخرى مثل «تحرير السودان – المجلس الانتقالي» بزعامة صلاح رصاص، و«تجمع قوى تحرير السودان» بقيادة عبد الله يحيى، وحركة مصطفى طمبور.

تعود جذور هذه الحركات إلى حرب دارفور عام 2003 التي اندلعت ضد حكومة عمر البشير بدعوى «التهميش الاقتصادي والاجتماعي». غير أن تلك الحركات انقسمت لاحقاً على أسس قبلية، ما أدى إلى تشرذمها إلى عشرات الفصائل الصغيرة.

وفي أواخر التسعينات، ظهرت «حركة العدل والمساواة» بقيادة الإسلامي المنشق خليل إبراهيم، ثم خلفه شقيقه جبريل بعد مقتله، وتعرضت الحركة لانشقاقات عدة. أما حركة «تحرير السودان»، فانقسمت بدورها بين جناح مني مناوي وجناح عبد الواحد محمد النور، لتصبح هناك حركتان تحملان الاسم ذاته.

ومع اندلاع الحرب الحالية، اصطف مناوي وجبريل إلى جانب الجيش، بينما تمسك عبد الواحد النور بموقف الحياد، محافظاً على معاقله في جبل مرة.


تشظي المجموعات المسلحة

شهدت الحركات المسلحة في دارفور سلسلة انشقاقات، أسفرت عن بروز ميليشيات صغيرة جديدة مثل «القوة الشعبية للدفاع عن النفس» بقيادة بخيت دبجو، و«العدل والمساواة» بزعامة منصور أرباب، إلى جانب مجموعات محلية أخرى مثل «عرت عرت» و«دقو جوة» و«رؤية».
كما أعاد الزعيم القبلي موسى هلال إحياء ميليشيا «مجلس الصحوة الثوري»، التي اتخذت موقفاً داعماً للجيش من دون مشاركة فاعلة في القتال.

تكمن قوة هذه الميليشيات في الأسلحة النوعية التي حصلت عليها من الخارج أو من مخازن الجيش بعد اندلاع الحرب، فضلاً عن سيطرتها على مناطق تعدين ذهبية تمثل مصدراً رئيسياً لتمويلها. غير أن تنافرها القبلي، وهيمنة قبيلة الزغاوة على أغلب فصائلها، يمثل نقطة ضعف تهدد بتفككها، خصوصاً بعد فقدانها نحو 90 في المائة من مناطق نفوذها في دارفور لصالح «الدعم السريع».


ميليشيات الحركة الإسلامية

تشير تقارير محلية إلى وجود أكثر من 25 ميليشيا ترتبط بالنظام السابق و«الحركة الإسلامية»، مثل «كتائب البراء بن مالك» و«أنصار الله» و«لواء الفرقان» و«الفيلق الشبابي» و«سجيل» و«جنود الحق» و«درع الجزيرة».
وتُعدّ «قوات الدفاع الشعبي» أبرز هذه التشكيلات، إذ تأسست عقب انقلاب الإسلاميين في عام 1989 كمليشيا شبه عسكرية تقاتل تحت راية «الجهاد». وبعد حلها عقب سقوط نظام البشير، عادت لتنشط مجدداً مع اندلاع الحرب الحالية.

ومن أبرز الأذرع السرية للحركة الإسلامية «كتائب الظل»، التي كشف عنها القيادي الإسلامي علي عثمان محمد طه حين قال: «هناك كتائب ظل تدافع عن النظام ولو اقتضى الأمر التضحية بالروح». كما عادت وحدات «هيئة العمليات» التابعة لجهاز الأمن والمخابرات إلى الواجهة دعماً للجيش.

تحظى هذه المجموعات بتمويل حكومي وتسليح متطور يشمل صواريخ «كورنيت» وطائرات مسيّرة، لكنها تواجه عزلة اجتماعية بسبب ارتباطها بالنظام السابق ورفض الشارع لإعادة إنتاجه.

دورية لـ«الدعم السريع» في إحدى مناطق القتال بالسودان

ميليشيات قبلية وجهوية

في شرق ووسط السودان، نشأت ميليشيات قبلية عديدة. من أبرزها «درع البطانة» بقيادة أبو عاقلة كيكل، التي انحازت أولاً لـ«الدعم السريع» ثم تمردت عليه لتعلن ولاءها للجيش عام 2024. بعد عمليات تجنيد واسعة، أصبحت تُعرف باسم «درع السودان»، وأسهمت في استعادة الجيش لولاية الجزيرة والعاصمة.

كما ظهرت في شمال ووسط البلاد ميليشيات أخرى مثل «سيف النصر»، و«الدرع النوبي»، و«أسود الصعيد»، و«عبد الله جماع».
وفي شرق السودان، تتعدد المجموعات المسلحة ذات الطابع القبلي، بينها «الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، و«الأورطة الشعبية» بزعامة الأمين داؤود، و«تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، المدعومة من إريتريا، إضافة إلى «درع شرق السودان» و«مؤتمر البجا» بقيادة موسى محمد أحمد، و«المجلس الأعلى لنظارات البجا» بقيادة محمد الأمين ترك.

ورغم أن هذه المجموعات تحظى بدعم قبلي وتسليح من بعض دول الجوار، فإنها تعاني انقسامات حادة ونقصاً في التنسيق، ما يجعلها عرضة لصراعات داخلية قد تنفجر في أي لحظة.


«قوات الدعم السريع»… القوة التي صنعتها السلطة

تعود نشأة «قوات الدعم السريع» إلى عام 2013 حين أنشأها الرئيس السابق عمر البشير لتكون قوة موالية له تحميه من خصومه داخل المؤسسة العسكرية. كان البشير يطلق على قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) لقب «حمايتي»، وقد استخدمها لقمع التمردات في دارفور.

ينحدر معظم مقاتلي «الدعم السريع» من قبائل عربية رعوية في دارفور، وهي مجموعات كانت تُعرف سابقاً باسم «الجنجويد» الذين اتهموا بارتكاب جرائم واسعة ضد المدنيين في الإقليم. وعلى الرغم من سعيها لنفي تلك الصلة، فإن سجلها في دارفور ما زال يطاردها.

بعد الثورة التي أطاحت بالبشير عام 2019، لعبت «الدعم السريع» دوراً محورياً في إسقاط النظام، ثم تحولت إلى قوة رئيسية في المشهد العسكري، وصل عدد أفرادها إلى نحو 100 ألف مقاتل مدججين بأسلحة ثقيلة.


تحالفات متغيرة

منذ اندلاع الحرب، انضم عدد من الحركات المسلحة إلى «الدعم السريع»، منها «تجمع قوى تحرير السودان» بقيادة الطاهر حجر، و«العدل والمساواة» بزعامة سليمان صندل، و«تحرير السودان – المجلس الانتقالي» بقيادة الهادي إدريس.
كما أعلنت الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو تحالفها مع «الدعم السريع» ضمن ما يعرف بتحالف «تأسيس»، بينما اختار جناح مالك عقار الانحياز للجيش وتولى منصب نائب رئيس «مجلس السيادة».


ميليشيات في طور التكوين

في شمال السودان، الذي لم يعرف الميليشيات من قبل، أعلن زعيم «كيان الشمال» محمد سيد أحمد (الجكومي) عن تدريب 50 ألف مقاتل من أبناء ولايتي الشمالية ونهر النيل. وظهرت كذلك ميليشيا «أولاد قمري» التي تتلقى دعماً من الجيش.
وفي كردفان، تأسست ميليشيا «درع كردفان – حلف الكرامة» إلى جانب تشكيلات أخرى مثل «تحالف كردفان» و«أسود الجبال»، فيما تشهد ولاية الجزيرة وسط البلاد ظهور «قوات شعب الوسط».


خطر التفكك

يرى المحلل السياسي عثمان فضل الله أن انفجار الميليشيات يهدد فرص السلام، إذ باتت تفرض واقعاً ميدانياً يسبق أي تسوية سياسية. ويقول إن هذه الجماعات «ملأت فراغ الدولة وضعف مؤسساتها، لتصبح القوة هي القانون».
أما المحلل صلاح الأمين فيحذر من سيناريو شبيه بليبيا، حيث قد تنقسم البلاد إلى حكومتين وسلطات مناطقية تديرها «لوردات حرب». ويضيف أن بعض الأقاليم قد تنجذب للانضمام إلى دول الجوار بفعل الروابط القبلية والثقافية.

من جانبه، يرى الباحث عصام عباس أن تضخم الميليشيات هو نتاج مباشر لضعف المؤسسة العسكرية وغياب مشروع وطني جامع، مؤكداً أن استمرار الوضع الحالي سيقود السودان إلى مزيد من الانفلات والانهيار.

وفي ظل هذا المشهد المعقّد، يظل السؤال المطروح: هل سيتمكن السودانيون من إعادة بناء مؤسساتهم الأمنية والعسكرية، أم أن دوامة الميليشيات ستبتلع ما تبقّى من الدولة؟

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد