ذهب السودان وقود لحرب النفوذ الإقليمي والمخابرات المصريه سيدة المشهد 

متابعات دارفور: محمد عثمان

في ظل ضغوط اقتصادية خانقة وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي، تتحرك القاهرة لتأمين مصادر جديدة للذهب خارج حدودها، وتحديدًا في السودان الغارق في الفوضى. من خلال رجل الأعمال محمد الجارحي، وبغطاء مباشر من جهاز المخابرات العامة، تسعى مصر إلى بناء موطئ قدم استراتيجي في قطاع التعدين السوداني، بما يعزز قدرة البنك المركزي المصري على دعم العملة الوطنية وتمويل الواردات.

تشير التطورات الأخيرة إلى أن مصر دخلت رسميًا سباق السيطرة على الثروات المعدنية السودانية، عبر واجهات اقتصادية تتكامل مع نفوذ مؤسساتها الأمنية. فقد أعلنت شركة Deep Metals، المسجلة حديثًا في مايو 2025، نيتها استثمار 277.3 مليون دولار في السودان، رغم أن الشركة لم يكن لها أي نشاط سابق في البلاد. جاء المشروع بمبادرة من رجل الأعمال محمد الجارحي، مالك مجموعة الجارحي للصلب وأحد أبرز ممثلي دوائر رأس المال المتحالفة مع الدولة.

تأسست الشركة بالشراكة مع رجال أعمال سودانيين هم مبارك أردول وعمر النمر، وأعلنت عن استحواذها على 85% من منجم “أركاديا” للذهب، موقع غير معروف نسبيًا على خريطة التعدين السوداني. غير أن الإعلان أثار موجة جدل داخل السودان، ما دفع وزارة المعادن وشركة Deep Metals إلى إصدار توضيحات تفيد بأن الصفقة “قيد المشاورات” ولم تُستكمل بعد.

وراء هذا الغموض الرسمي تختبئ استراتيجية مصرية أعمق تشرف عليها المخابرات العامة، التي تتولى تنسيق ملف الذهب منذ عام 2022. الجهاز، الذي يمتلك نفوذًا متزايدًا في إدارة الملفات الاقتصادية الحساسة، يرى في الذهب السوداني فرصة مزدوجة: دعم احتياطيات البنك المركزي المصري وتأمين منفذ استراتيجي في دولة تُعد امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي المصري في الجنوب.

يُعتبر محمد الجارحي حلقة وصل بين الدولة ودوائر المال؛ فإلى جانب رئاسته لمجموعة الحديد والصلب التي توسعت بعد 2011، يشغل مقعدًا برلمانيًا عن حزب “مستقبل وطن”، الذراع السياسية الأقرب للرئاسة، ويتمتع بعلاقات مباشرة مع قيادة المخابرات العامة، خصوصًا مع اللواء محمود السيسي، نجل الرئيس ونائب رئيس الجهاز، المشرف على الملفات الاقتصادية الاستراتيجية.

تؤكد مصادر سودانية أن لقاءً عُقد في أوائل سبتمبر بين وزير التعدين السوداني نور الدائم طه ونظيره المصري كريم بدوي في القاهرة، مهّد فعليًا لانطلاق المشروع، حيث نوقش “التعاون الاستراتيجي في مجال التعدين” — صيغة تُستخدم غالبًا لتغطية اتفاقات تجارية ذات طبيعة أمنية.

الدوافع المصرية واضحة: نقص حاد في العملات الأجنبية، ضغوط ديون خارجية، وارتفاع كلفة الواردات، خصوصًا بعد تراجع الدعم الخليجي منذ 2023. بلغت احتياطيات مصر من الذهب منتصف 2025 نحو 128.6 طنًا، بينما وصل إجمالي الاحتياطيات من العملة والذهب إلى 48.7 مليار دولار فقط، أرقام لا تكفي لتغطية الاحتياجات الاستيرادية على المدى الطويل. لذلك تسعى القاهرة إلى زيادة مخزونها الذهبي من مصادر مباشرة في أفريقيا، وعلى رأسها السودان.

في المقابل، يعيش السودان أزمة اقتصادية تفاقمت بعد الحظر التجاري الإماراتي في أغسطس 2025، إذ كانت أبوظبي الشريك التجاري الأول للسودان بحجم تبادل بلغ 2.2 مليار دولار في 2024. هذا الحظر فتح الباب أمام تحول في خريطة الشركاء الاقتصاديين، فبدأ وزير التعدين نور الدائم طه مفاوضات متقدمة مع مصر وسلطنة عمان لتأمين منافذ بديلة لتصدير الذهب.

بينما تسعى Deep Metals للتوسع، صرّح الشريك السوداني مبارك أردول بأن المشروع المشترك يتفاوض للاستحواذ على أربعة مناجم: ثلاثة للذهب في القضارف والبحر الأحمر ونهر النيل، إضافة إلى رواسب حديد في الولاية الشمالية. تقع هذه المناطق في نطاق نفوذ الجيش السوداني، ما يجعل الاستثمار المصري أكثر أمانًا مقارنة بالمناطق التي تشهد صدامات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.

غير أن التطورات المتسارعة دفعت السلطات في بورتسودان في 15 أيلول/سبتمبر إلى إصدار قرار يقضي بأن عمليات شراء وتصدير الذهب ستكون حصرًا للبنك المركزي السوداني، خطوة هدفها استعادة السيطرة على قطاع يهيمن عليه التهريب والصفقات غير الرسمية. لكن هذا القرار لم يُفسَّر كعقبة أمام التعاون مع مصر، بل فُهم كإطار تنظيمي يمهّد لتعامل مباشر بين المؤسستين الماليتين في البلدين برعاية المخابرات العامة.

على المستوى السياسي، تُظهر التحركات المصرية اعتماد القاهرة مقاربة اقتصادية–أمنية هجينة تجاه السودان: دعم النظام في بورتسودان عبر استثمارات رسمية وشبه رسمية، وفي المقابل ضمان نفوذ طويل المدى في قطاع التعدين، أحد أهم مصادر الدخل السوداني.

الاقتصاد الأمني

تتحرك مصر في السودان بمنطق “الاقتصاد الأمني”، حيث تصبح الموارد الطبيعية أداة لتأمين الاستقرار المالي والسيطرة الجيوسياسية معًا. تأسيس شركة Deep Metals ليس مشروعًا استثماريًا بحتًا، بل واجهة استراتيجية تهدف إلى دمج المخابرات العامة في النشاط الاقتصادي الخارجي، ضمن رؤية شاملة لاستغلال الأزمات الإقليمية.

تسعى القاهرة لأن يكون الذهب السوداني خط الدفاع الاقتصادي الأخير في ظل ضعف الدعم الخليجي وصعوبة الاقتراض الدولي، بينما يرى السودان في مصر شريكًا نسبيًا آمنًا يمكنه تعويض فقدان السوق الإماراتية. إلا أن هذا التقاطع يكتنفه توتر: القاهرة تفضّل قنوات مؤسسية مغلقة تضمن السيطرة، بينما يسعى السودان إلى شراكات أوسع ومتعددة الاتجاهات.

المعطيات تشير إلى مشهد مزدوج الاحتمالات: اقتصاديًا، ترسيخ نفوذ مصر في قطاع التعدين وربطه بالبنك المركزي المصري، وأمنيًا، تعزيز حضور المخابرات العامة في العمق السوداني كامتداد لنفوذها في ليبيا وجنوب السودان. إنها استراتيجية ذهبية بثوب استثماري، تحوّل المأزق الاقتصادي إلى مشروع نفوذ طويل المدى عبر واجهات تجارية.—

في الوقت الذي يعمل فيه أكثر من مليون سوداني في التعدين التقليدي في 12 ولاية، تحوّل الذهب السوداني منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 من مورد محلي إلى أداة استراتيجية تموّل النزاعات وتغذّي مصالح إقليمية معقدة. تقرير صادر عن المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) يؤكد أن الصراع على الذهب يربط بين أطراف عسكرية سودانية ودولًا مجاورة تسعى لتعزيز نفوذها، مما يجعل المعدن محور تنافس داخلي وخارجي له انعكاسات تتجاوز حدود السودان.

صراع المناجم

تتنازع القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) على مناطق الإنتاج، التي أصبحت شريانًا ماليًا لتمويل العمليات العسكرية. في 2024، بلغ الإنتاج الرسمي للذهب نحو 64.36 طنًا، كان 83% منها من التعدين التقليدي، و9% صناعي، و7% من معالجة المخلفات. وتمكنت السلطات من تصدير 27.96 طنًا رسميًا بقيمة 1.6 مليار دولار.

لكن الأرقام الرسمية تخفي جانبًا أكبر: جزء كبير من الذهب يُهرّب من مناطق سيطرة الدعم السريع عبر الحدود مع مصر وليبيا وتشاد. يُقدّر أن نحو 60% من إنتاج ولايات نهر النيل والشمالية والبحر الأحمر يُهرّب يوميًا، أي ما يعادل أكثر من 60 طنًا منذ بداية الحرب.

مسارات التصدير

شكل الذهب نحو 91% من صادرات السودان عام 2024 بقيمة تجاوزت 1.52 مليار دولار، وتبحث جهات داخلية عن توجيه الذهب نحو مصر للاستفادة من فارق الأسعار: فقد بلغ سعر جرام ذهب عيار 21 في مصر نحو 85 دولارًا مقابل 55–60 دولارًا في السودان، ما يزيد الأرباح بنسبة تصل إلى 80%.

توسع تهريب الذهب إلى دول الجوار مثل ليبيا ومصر وتشاد وجنوب السودان وأوغندا، وفي ليبيا يُستخدم لتمويل شبكات تهريب الوقود والأسلحة. كما أصبح الذهب وسيلة دفع داخل شبكات تهريب البشر؛ إذ يُطلب من اللاجئين دفع تكاليف عبورهم إلى مصر بالذهب في ظل انهيار النظام المصرفي الرسمي.

جهود دولية وإقليمية

يذكر التقرير أن السعودية وغيرها تبذل جهود وساطة لضبط استقرار البحر الأحمر، لكن دولًا إقليمية تتنافس على النفوذ عبر السيطرة على سلاسل توريد الذهب. ويشدّد التقرير على أن أي تسوية سياسية في السودان يجب أن تشمل تنظيم تجارة الذهب وفق معايير دولية مثل CRAFT وOECD، وتشجيع تدقيق المصافي وتقييد التجارة بالذهب المستخرج من مناطق النزاع. كما يوصي بتشكيل تحالف دولي يضم دولًا إقليمية ودولية للضغط على الأطراف ووقف الدعم المالي والعسكري الذي يغذي النزاع.

وقود الحرب

المحصلة أن الذهب لم يعد سلعة اقتصادية فحسب، بل تحوّل إلى وقود حرب وعملة تهريب وأداة نفوذ إقليمي. وإذا لم تُعالج هذه الأزمة ضمن رؤية شاملة، سيظل الذهب يغذي صراعًا طويل الأمد تتجاوز آثاره حدود السودان إلى الإقليم بأسره.

لا تقتصر أهمية الذهب في السودان على دوره الاقتصادي، بل تتعداه إلى كونه عنصرًا محوريًا في الصراع الدائر. ففي 11 يونيو/حزيران 2025، أعلن الجيش السوداني انسحابه من المثلث الحدودي عقب هجوم منسق شنته قوات الدعم السريع بالتعاون مع ميليشيا “سبل السلام” الليبية المدعومة من حفتر. لم يكن هذا الانسحاب تراجعًا عسكريًا فحسب، بل ضربة استراتيجية أفقدت القوات المسلحة موضعًا حيويًا في أحد أهم ممرات التهريب في شمال أفريقيا.

لا يُستخلص من الخام في المرحلة الأولى سوى نحو 30% فقط، فيما تُهدر كميات ضخمة على شكل جزيئات دقيقة يستعاد منها نحو 4.95 طن تقريبًا، أي نحو 7% فقط من إجمالي الإنتاج. المثلث الحدودي يُعد بوابة رئيسية لتهريب الذهب السوداني، ما جعله هدفًا استراتيجيًا لقوات الدعم السريع التي تسعى للسيطرة على مناجم عكاشة ونهر النيل، حيث كانت شركة “الجنيد” التابعة للدعم السريع تدير ثلاث مناجم على الأقل قبل اندلاع الحرب.

لا يقتصر الصراع على الشمال؛ ففي دارفور تدور معارك بين الجيش والدعم السريع للسيطرة على الفاشر، نقطة ارتكاز رئيسية لثروات الإقليم المعدنية. تضم المنطقة أربع مناطق تعدين رئيسية، أبرزها القلايا والقطما، ويعمل فيها آلاف المنقبين. تُترجم السيطرة على هذه المناطق إلى تمويل مباشر للآلة العسكرية: وفق تقرير قُدّم إلى مجلس الأمن في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، استخرجت قوات الدعم السريع ذهبًا من مناجم خاضعة لسيطرتها بقيمة تُقدّر بنحو 860 مليون دولار خلال عام واحد فقط. في المقابل، تشير الحكومة السودانية المتمركزة في بورتسودان إلى أن إنتاج الذهب من المناطق الخاضعة للجيش يولّد عائدات شهرية تُقدّر بـ150 مليون دولار، أي نحو 1.6 مليار دولار سنويًا.

الإمارات وروسيا: لاعبان محوريان

لا تقتصر التوترات على الفاعلين المحليين؛ بل تمتد إلى لاعبين خارجيين. تلعب الإمارات دورًا محوريًا في تغذية الصراع، ليس فقط عبر الدعم المالي والعسكري لقوات الدعم السريع، بل من خلال هيمنتها على شبكات تهريب الذهب. تقدر بعض التقديرات أن 50%–80% من الإنتاج يُهرّب، وأن نحو 90% من هذه الكميات ينتهي في الإمارات، ما جعل أبوظبي مركزًا محتملاً لغسل الذهب وإعادة تصديره تحت غطاء قانوني. في يناير 2025، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على سبع شركات إماراتية بذريعة تمويلها لقوات الدعم السريع عبر تجارة الذهب السوداني.

في المقابل، يظهر التدخل الروسي من خلال مجموعات مثل فاغنر التي دخلت السودان رسميًا عام 2017، وتحوّل دورها إلى لاعب رئيسي في التنقيب وتسهيل تجارة الذهب. تحقيق لشبكة CNN وثّق 16 رحلة جوية سرية من السودان إلى روسيا خلال عام ونصف، محمّلة بكميات كبيرة من الذهب المهرب، أُديرت عبر شركة “الصولاج” التي تعمل كواجهة لشركة “ميروي جولد” الروسية.

في يناير 2025 اتهمت الولايات المتحدة روسيا أمام مجلس الأمن بأنها تموّل طرفي الصراع عن طريق تجارة الذهب، بينما كشف تقرير “Blood Gold” في أواخر 2023 أن روسيا غسلت نحو 2.5 مليار دولار من عائدات الذهب الأفريقي غير القانوني منذ حربها مع أوكرانيا، وتُجنِي أكثر من 100 مليون دولار شهريًا من تجارة الذهب غير المشروعة في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، ما يعزز قدرتها على تمويل نفوذها العسكري والسياسي في القارة وخارجها.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد