الظل الأخير… كبار السن في مواجهة الموت البطئ بدارفور

متابعات دارفور: إنعام النور

في مدينةٍ خُنقت من كل الجهات، تُترك الشيخوخة تموت بهدوء. لا صخب قذائف، لا صرخات، بل همس متقطع… وأنينٌ لا يسمعه أحد.

في الفاشر، لا تُقتل الأرواح فقط بالرصاص، بل أيضًا بالجوع، وبالخذلان. كبار السن، من خاضوا حروب البلاد القديمة، وعلّموا أجيالًا، وجمعوا حفنة أمل على مدار عمرٍ كامل، يقضون اليوم أيامهم الأخيرة على قارعة الصمت، دون ضجيج أو حتى وداع.

أربعون يومًا من الموت البطيء

كشفت غرفة طوارئ معسكر أبوشوك بالفاشر عن وفاة أكثر من 22 من كبار السن خلال الأربعين يومًا الماضية .

في مخيم أبو شوك، على أطراف المدينة التي انغلقت في وجه كل نداءات النجاة، يجلس الجد ميسرة، بعمره الذي تجاوز السبعين، يلتصق بجدار ترابي وقد وهن جسده، يتحدث بصوت بالكاد يُسمع، كأن كل كلمة تستنزف ما تبقى فيه من حياة. يقول، وهو يشير إلى قدميه المنتفختين: “أنا لا أقوى على الحركة… الحياة هنا تحتاج إلى شباب ليجلبوا الطعام. وأنا لم أنجب. أعيش مع زوجتي، وهي الأخرى أضعف مني.” ميسرة مريض بالقلب، ويتطلب علاجًا منتظمًا، لكنه لم يتناول أي دواء منذ اندلاع الحرب، لم يكن ذلك لأنه لا يريد النجاة، بل لأنه ببساطة لم يعد يرى لنفسه أولوية في زمن القتل الجماعي. “أخجل أن أذهب إلى المستشفى… هناك آلاف الجرحى أولى مني. لا أستطيع المشي، ولا أحد يحملني… أنا ببساطة… أموت.”

بعيدًا عنه، وفي ركنٍ متهالك من نفس المخيم، تجلس الحاجة سارة ، بجسد لا يكاد يحمل لحمًا، وجهها غارق في الشحوب، وعيناها غائرتان في تجويف الجمجمة. تتحدث وكأنها تعتذر عن بقائها على قيد الحياة. “منذ أيام لم آكل. ليس لأني شبعانة… بل لأني أخاف دخول الحمام”.

تشرح ذلك بصوت منهك: “إذا أكلت، سأحتاج للذهاب للحمام. لكن الوصول إليه يعني الانتظار ساعات في طابور طويل، وأنا لا أستطيع الوقوف. أعاني من السكري، وأوقفت جرعة الإنسولين منذ فترة. لا يمكنني أخذ الدواء دون طعام، وقد يُقتلني إن فعلت”. على ذراعيها آثار تسلخات مؤلمة. لا مرهم يخفف، ولا قطعة قماش نظيفة. فقط جلد يتآكل وعظام تنهار بصمت. سارة أصبحت تشبه ظلًا يعتذر عن حضوره الثقيل في عالمٍ لا يرحم.

في هذه المدينة التي انقطعت عنها المساعدات منذ شهور، تغيب الأرقام عن رصد أوجاع الكبار. بينما تتصدر عناوين الأخبار أرقام وفيات الأطفال والنساء، يغيب عن الذاكرة من لا يصرخ، ومن لا يشارك صوره على وسائل التواصل. كبار السن يُتركون للموت بلا ضجيج، ولا أحد يُحصي جثثهم. عددٌ من العاملين الصحيين المحليين تحدثوا عن وفيات تتجاوز الستين شخصًا من المسنين خلال أربعين يومًا فقط، في مخيمات متفرقة حول الفاشر، بسبب نقص الأدوية، وسوء التغذية، والانقطاع الكامل للرعاية الصحية الأساسية.

الطعام رفاهية تؤجل الموت

آدم إدريس، في السادسة والسبعين من عمره، فقد زوجته قبل أسبوعين فقط داخل مدينة الفاشر. يتذكر اللحظة الأخيرة بنبرة منكسرة: “كانت تعاني من إسهال حاد. لم أستطع شراء دواء. قالت لي قبل موتها: لو مت، أوصل سلامي لبناتنا . ماتت وأنا عاجز، ما قدرت أجيب ليها أكل”. لم تُدفن بجنازة لائقة، ولم يُرفع لها دعاء جماعي، فقط دفنتها الأيدي المرتعشة داخل حفرة ضيقة في المنزل ، ثم انسحب الجميع في صمت.

رغم ما سبق، هناك من لا يزال يملك القليل من الكلمات المتبقية ليقولها. الحاجة نوال، في السبعين من عمرها، جلست على الأرض في مقابلة نادرة، رفعت رأسها لأول مرة أثناء الحديث، وقالت: “العالم كله يتحدث عن الأطفال والنساء… ونحن؟ نحن ننتظر أن يأخذنا الله… بهدوء.” نظرت حولها ثم أضافت: “نحن لا نملك رفاهية البكاء، ولا من يستمع لشكوانا. لا دواء، لا طعام خاص، لا أحد يعيننا حتى على الوضوء أو الصلاة. ننتظر موتنا في الظل.”

إنهيار المنظومة الصحية

في تقرير صادر عن الأمم المتحدة، قالت المنسقة الأممية “دنيس براون” إن المدنيين هناك يواجهون “خيارات مستحيلة”: إما البقاء داخل المدينة تحت وطأة القصف المستمر والجوع، أو محاولة الفرار عبر طرق محفوفة بالمخاطر، حيث ينتظرهم العنف والنهب والقتل. هذا التصريح يلخّص المأساة الإنسانية التي تعصف بالفاشر منذ أشهر، إذ وجد عشرات الآلاف من السكان أنفسهم محاصرين بين حصار خانق يقطع عنهم الغذاء والدواء والماء، وبين طرق هروب لا تقل خطورة عن الموت داخل المدينة. فالبقاء يعني مواجهة القصف العشوائي وانعدام الخدمات الأساسية، بينما الفرار يفتح أبواباً على تهديدات لا تقل دموية، من استهداف مباشر أو مضايقات وعمليات سلب وانتهاكات جسيمة. دعوة الأمم المتحدة لفتح ممرات إنسانية وحماية المدنيين تعكس إدراكاً لخطورة اللحظة، حيث تحولت الفاشر إلى سجن كبير يفتقد شروط الحياة الآمنة والكرامة الإنسانية.

و تقول خديجة جمعة متطوعة ، من داخل الفاشر،بصوت ممتزج بالغضب: “كل شيء في الإغاثة موجه للأطفال والنساء. لا أحد يُفكر في المسنين. لا غذاء خاص، لا برامج علاجية، لا حتى كراسي متحركة. عندنا مسنة عمرها 84 سنة، فقدت السيطرة على البول، وتجلس طوال اليوم في ملابس مبتلة لأن لا أحد يملك حفاضًا لها. هل هذه حياة؟”

الأمم المتحدة تضع كبار السن ضمن الفئات ذات الأولوية القصوى في النزاعات، وفقًا للمعايير الإنسانية، لكن الواقع في الفاشر ينسف هذه المبادئ. لا يوجد دعم نفسي، ولا قوافل غذائية تأخذ أعمارهم بعين الاعتبار، ولا حتى خطط إجلاء أو علاج تراعي هشاشة أجسادهم.

من جهة أخرى، ومن داخل المدينة، قالت فتاة تُدعى زينب، تبلغ من العمر 17 عامًا، إنها تعرضت للاغتصاب أثناء محاولتها الهروب مع والدتها المسنّة إلى أطراف أم كدادة. قالت، وعيناها تبرقان بالدموع: “قالوا لي: تعايني لينا، أو نقتلك. اختاروا الاغتصاب. أنا الآن حامل، وأمي مريضة، وما عندنا طريق نخرج ولا منظمة ساعدتنا.”

المطابخ المجتمعية: نار إنطفأ

توقف المطابخ المجتمعية زاد من الأزمة. كانت في السابق تطهو الطعام لآلاف الأشخاص. اليوم، لا شيء سوى الجوع. تقول حليمة إسماعيل، وهي متطوعة في أحد المطابخ السابقة: “كنا نطهو العدس والملاح لثلاثة آلاف شخص يوميًا. اليوم لا أستطيع إطعام أطفالي الثلاثة.” مع توقف هذه المبادرات، بدأ العد التنازلي لجوع جماعي صامت، لا يصرخ فيه أحد.

لا توجد عيادات ميدانية مخصصة للمسنين، ولا برامج غذائية تراعي احتياجاتهم الصحية، ولا دواء يُخفف ألم مفصل، أو يُنعش قلبًا ضعيفًا. فقط جدران طينية، وهواء ساخن، وجسد ينتظر من يودّعه.

آثار نفسية

تقول الدكتورة سارة تاج السر طبيبة الصحة النفسية ان المسنون يحظون أحياناً بمحاولات شخصية لرعايتهم من بعض المتطوعين، لكن من دون وسائل، إذ لا يتوفر كراسي متحركة ولا طعام ولا أدوية، وهذا يعقد مهمة العناية بهم كثيراً”.

وتوضح أن مشاهد الدمار ومشاعر الفقدان والتشرد سببت مشكلات صحية عديدة، إذ جرى إيقاظ الرواسب النفسية من مشاعر الحسرة والحزن، وهذا جعلنا نرصد علامات مرض ألزهايمر والاكتئاب عليهم.

و يتعرض المسنون في الفاشر إلى انتهاكات جسيمة تطال حقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها الحق في الحياة الكريمة، والأمن، والمأوى، والغذاء، والدواء، والتنقل. ومع استمرار القصف والحصار، يواجه كبار السن ظروفاً قاسية تهدد حياتهم بشكل مباشر، حيث يُحرمون من أبسط مقومات البقاء، ويجدون أنفسهم عرضة للجوع والمرض وانعدام الرعاية الطبية، في ظل غياب ممرات آمنة وبيئة توفر الحماية والكرامة الإنسانية.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد