بعد 500 يوم حصارًا.. “الغارديان” تكشف مأساة الفاشر بين التجويع والقصف

متابعات دارفور: السودان


سلطت صحيفة “الغارديان” البريطانية الضوء على الحصار المحكم الذي تفرضه قوات الدعم السريع علي مدينة الفاشر السودانية، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ أكثر من 17 شهرًا، واصفة المدينة بأنها “مختبر للحرب الحديثة” يجمع بين الاستنزاف البطيء والتجويع والقصف المتواصل.

وتحت عنوان: “عربة يجرها حمار من الفاشر أغلى من سيارة جديدة.. كيف مزق الحصار المدينة بعد 500 يوم”، ذكرت الصحيفة في تقريرها السبت، أن الفاشر تخضع منذ مايو 2024 لحصار هو الأطول في تاريخ الحرب السودانية الحديثة، مشبهة الوضع بمآسي ستالينغراد ولينينغراد في القرن الماضي.

وأوضحت أن المدينة باتت غارقة في شبكة من الخنادق التي حفرها المدنيون بحثًا عن الأمان، فيما تحولت الأحياء السكنية إلى خطوط تماس بين القوات الحكومية وجماعات الدفاع الشعبي من جهة، وقوات الدعم السريع من جهة أخرى.

وذكرت أنه منذ استعادة الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم في أبريل 2025، كثّفت قوات الدعم السريع قصفها اليومي للفاشر، ليبدأ السكان نهارهم قبل الفجر بالاحتماء داخل الخنادق.

قالت إحدى الشهادات التي نقلتها الصحيفة: “ننام في الخنادق حتى يهدأ القصف، ثم نخرج لنتفقد من بقي حيًا”.

الخنادق تُغرق الأحياء والموت يتسلل مع كل قذيفة

تحولت الخنادق التي كانت ملاذًا من القصف إلى “عمارة للبقاء” بعد أن غمرتها مياه الأمطار. يروي السكان مشاهد مأساوية لضحايا قُتلوا أثناء محاولتهم الفرار أو دفن ذويهم تحت القصف.

إحدى الشابات، تُدعى أمل، قالت إنها جرت جثة جدها بعد إصابته بقذيفة، واضطرت للبقاء بجانبه لساعات حتى هدأ القصف لدفنه.

في حيّ الدرجة الأولى، تختبئ عائلات في خندق محفور يدويًا، ويحتمي فيه ما يصل إلى عشرة أشخاص في وقت واحد.
في حيّ الدرجة الأولى، تختبئ عائلات في خندق محفور يدويًا، ويحتمي فيه ما يصل إلى عشرة أشخاص في وقت واحد.

وأضافت الصحيفة أن مشاهد الرعب اليومية باتت روتينًا: “نزول محموم، ساعات طويلة تحت الأرض، ثم عودة حذرة إلى الأعلى… رعب مخطط له مسبقًا”.

الطائرات المسيرة تُغير شكل الحرب

وأشارت “الغارديان” إلى أن سكان المدينة يعيشون منذ أكتوبر الماضي تحت تهديد نوع جديد من الهجمات عبر الطائرات المسيرة التي تحلق فوق الفاشر بشكل مفاجئ، في أحد أوائل استخدامات هذا النوع من السلاح في دارفور.

وتقول الصحيفة إن سكان المدينة باتوا يخشون حتى من “الهمهمة في السماء”، إذ لا يعلمون إن كانت للمراقبة أم لضربة مقبلة.

حشودٌ تُشاهد وهي تفرُّ من القتال بعد الهجوم على أحد المخيمات
حشودٌ تُشاهد وهي تفرُّ من القتال بعد الهجوم على إحدى المخيمات

مدينة معزولة.. ومجاعة تطرق الأبواب

وبحسب التقرير، أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على منافذ المدينة كافة، وأقامت حواجز ترابية في الشمال والشرق والجنوب، فلم يبق سوى طريق واحد يؤدي إلى منطقة طويلة، على بُعد نحو 60 كيلومترًا، وهو طريق محفوف بالمخاطر ونقاط التفتيش.

قالت امرأة فرت مؤخرًا من الفاشر للصحيفة: “عربة يجرها حمار من الفاشر تكلف الآن أكثر من سيارة جديدة”.

وأضافت أن الرجال والفتيان يُمنعون غالبًا من الخروج، ويُعتبرون مقاتلين محتملين.

ووصل إلى منطقة طويلة أكثر من 400 ألف نازح، بعضهم قضى على الطريق. يروي متطوع أن رجلًا مسنًا وصل منهكًا، طلب الماء، شرب، ثم سقط ميتًا أمامهم.

أسعار خيالية وطعام الماشية غذاء البشر

ولفتت “الغارديان” إلى الأسواق في المدينة قائلة إنها دُمّرت، والطعام أصبح عملة نادرة، حيث يُباع كيلوغرامين من الحبوب بـ100 دولار، وكيلو السكر أو الدقيق بـ80 دولارًا، بينما لا يتجاوز متوسط الراتب الشهري 70 دولارًا– عندما تُدفع الرواتب أصلًا، على حد قولها.

ونوهت بأنه نحو 260 ألف مدني يعتمد على أربعة مطابخ جماعية يديرها متطوعون، لكنها تقدم وجبة واحدة في اليوم وتتعرض هي الأخرى للقصف. فيما يقتات بعض السكان على بقايا قشور الفول السوداني التي كانت تُستخدم لتغذية الماشية.

يحمل الناس جثمان أحد ضحايا القصف إلى إحدى المقابر الثلاث الوحيدة التي لا تزال مفتوحة، حيث تُقام جنازات يومية تُشير إلى ارتفاع عدد الضحايا
يحمل الناس جثمان إحىد ضحايا القصف إلى أحد المقابر الثلاث الوحيدة التي لا تزال مفتوحة حيث تُقام جنازات يومية تُشير إلى ارتفاع عدد الضحايا

الرعاية الطبية في أدنى مستوياتها

ووفق التقرير، لم تصل أي مساعدات إنسانية إلى المدينة منذ بداية الحصار. وفي “مستشفى السعودي”، آخر منشأة شبه عاملة، يضطر الأطباء والمتطوعون إلى اتخاذ قرارات قاسية بتحديد من يمكن إنقاذه ومن يُترك ليموت.

صرحت إحدى المتطوعات: بأنه “لم يعد لدينا سوى الملح وبعض الأقمشة الممزقة لمعالجة الجرحى”.

كما توقف المستشفى عن استقبال المصابين بسبب قربه من خطوط النار، وتعرض أحد المرافق الطبية التابعة للمقاتلين الحكوميين للقصف مؤخرًا.

حياة في الظلام.. والخوف من الضوء

وذكرت الصحيفة أن غالبية السكان تُحاصر في الزاوية الشمالية الغربية من المدينة، داخل ثلاثة أحياء ومخيم للنازحين.

ليلًا، تُطفأ المصابيح الشمسية خشية الطائرات المسيرة. يقول أحد السكان: “لا يمكنك حتى إشعال سيجارة”.

وأضافت الصحيفة أن العسكرة تغلغلت في الحياة اليومية، فكل رجل أو فتى يُعامل كمقاتل محتمل، ما يزيد من انعدام الثقة والخطر على المدنيين.

في الإطار، نوهت “الغارديان” بأن معركة الفاشر تجاوزت كونها صراعًا عسكريًا لتصبح حربًا سياسية ووجودية، تمثل خلاصة مأساة السودان المعاصرة، حيث تُختبر قدرة المدنيين على الصمود في وجه الموت البطيء والحصار الخانق.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد