متابعات دارفور: وكالات
عندما وصلت الحرب المدمرة في السودان إلى حي سارة ويليامز في العاصمة الخرطوم، وجدت المرأة نفسها وأطفالها عالقين وسط تبادل لإطلاق النار.
اخترق الرصاص جدران منزلها، واحترقت المباني، وأثارت خطوط الكهرباء فرقعات أثناء انقطاعها.
تتذكر سارة وهي تحتضن ابنها البالغ من العمر عاماً واحداً: “كنا نزحف على الأرض، كانت هناك فوضى عارمة”.
سارة أم لخمسة أطفال، وتبلغ من العمر 33 عاماً، من جنوب السودان.
اضطرت إلى الفرار عندما اندلعت الحرب الأهلية في بلدها عام 2013، بعد عامين من الانفصال عن السودان، لتصبح أحدث دولة في العالم.
لكن سرعان ما تبددت نشوة ما بعد الاستقلال، عندما أدى الصراع على السلطة بين الرئيس سلفا كير ونائبه ريك مشار إلى حرب أهلية أودت بحياة ما يقدر بنحو 400 ألف شخص وأجبرت 2.5 مليون شخص على الفرار من منازلهم.
كانت سارة من بين الفارين، وبعد وصولها إلى الخرطوم التي كانت آنذاك مدينةً هادئة، أعادت بناء حياتها، وعملت مدبرة منزل لدى عائلة من الطبقة المتوسطة.
لكنها اضطرت للنزوح مجدداً بعد اندلاع القتال في السودان عام 2023 بين قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه آنذاك قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي.
تقول سارة: “بدأ الصراع بين السودانيين، لكنهم فيما بعد، بدأوا بقتل مواطني جنوب السودان أيضاً، رغم أننا لم نكن جزءاً من حربهم”.
خلال العامين الماضيين، أودى الصراع في السودان بحياة أكثر من 150 ألف شخص، وأجبر أكثر من 12 مليون شخص على النزوح من منازلهم، وتحولت أجزاء كبيرة من الخرطوم إلى أنقاض.
عندما تعرض منزل سارة للهجوم، حزمت أمتعتها القليلة وعادت إلى بلدها جنوب السودان.
لكن، عاد الصراع هناك أيضاً، حيث حذرت الأمم المتحدة من أن اتفاق السلام لعام 2018 بين كير ومشار بات مهدداً بالانهيار، وانتهت رحلة سارة في منطقة الرنك مؤقتاً، وهي بلدة حدودية تحولت إلى مركز عبور، تعج باللاجئين من السودان وجنوب السودان.
تقول وكالات الإغاثة إن الصراع في السودان تسبب في أكبر أزمة إنسانية في العالم© Hassan Lali / BBC
وبعد أن تقطعت بها السبل في الرنك لنحو خمسة أشهر، ترغب سارة في العودة إلى مسقط رأسها، منطقة ناصر في ولاية أعالي النيل.
لكن السفر إلى ناصر – وهي مدينة ساحلية ذات أهمية استراتيجية على نهر السوباط – غير آمن، إذ تحولت إلى منطقة حرب.
وتقول سارة لبي بي سي، وهي تحمل ابنتها البالغة من العمر أربع سنوات، وتهزّ ابنها البالغ من العمر عاماً واحداً: “هناك صراع ينتظرنا”.
كان صوتها ثابتاً، لكن عينيها حزينتان – تحملان وطأة الحرب والخسارة وعدم اليقين.
ووقعت اشتباكات متكررة بين القوات الحكومية والجيش الأبيض – وهي جماعة مسلحة متحالفة مع مشار خلال الحرب الأهلية – في منطقة ناصر، وتحدثت تقارير عن قصف عنيف ونزوح للسكان.
لم تتلقّ سارة أي أخبار عن عائلتها في المدينة، وتقول بهدوء: “لا أعرف إلى أين فروا عندما بدأت الاشتباكات، أو حتى إن كانوا على قيد الحياة”.
ترك القتال في جنوب السودان آلاف الأشخاص، مثل سارة، عالقين في مركز الرنك، حيث أصبح المخيم مكتظاً، ويأوي أكثر من 9000 شخص حالياً – أي ثلاثة أضعاف العدد الذي صُمم لاستيعابه.
ويحصل اللاجئون على مبلغ زهيد من المال من وكالات الإغاثة لشراء الطعام، لكن هذا المبلغ لا يكفي سوى أسبوعين فقط.
وتقول سارة إنها أُجبرت على قطع الأشجار لبيعها، حتى تتمكن من جمع المال لشراء الطعام، وتوضح: “كنت أجمع الحطب وأبيعه لشراء الدقيق، لكن لم يتبقَّ شيء في الغابة الآن، لا يوجد خشب لجمعه وبيعه”، بعد ما سببته الحرب من ضرر للبيئة.
ويتكدس 15 شخصاً في الغرفة الواحدة في المخيم، بينما يبني آخرون منازل هشة من العصي والأقمشة والأكياس الممزقة. ويُفاقم الاكتظاظ المرض والجوع، في حين تبذل وكالات الإغاثة جهوداً حثيثة لنقل الأسر إلى أجزاء أكثر أمناً في جنوب السودان، حيث يتمتع الناس “بروابط مجتمعية أو أسرية أقوى، وفرص أكثر لكسب الرزق، وإمكانية أفضل للوصول إلى الخدمات”، كما تقول فيجايا سوري من المنظمة الدولية للهجرة.
مع وجود عدد قليل من الطرق، يعد نهر النيل رابطاً رئيسياً للنقل في جنوب السودان© Hassan Lali / BBC
وينتظر المئات تحت أشعة الشمس الحارقة للصعود على متن قوارب معدنية متجهة إلى ملكال، إذ تستغرق الرحلة يومين ونصف اليوم في نهر النيل، حيث يجلس الركاب على أمتعتهم أو على أرضية القارب.
من بين هؤلاء ماري دينغ، التي هربت من ود مدني، التي تحولت إلى ساحة معركة ضارية في الصراع السوداني.
تقول: “كان عمر هذه الطفلة يوماً واحداً فقط عندما عبرنا الحدود، أنا في السادسة عشرة من عمري، لم يكن لدي مال، لكن الله كان معي”، وهي تتشبث بحزمة من الوثائق، من بينها تذكرة سفر عائلتها من الرنك.
كما أن الخدمات الطبية استنزفت إلى الحد الأقصى، إذ أن عيادة جودا الحدودية – المبنية من صفائح الحديد – هي المركز الصحي الوحيد الذي يعمل في المنطقة.
ويقول أحد العاملين في مجال الصحة: ”وُلد أكثر من 600 طفل هنا منذ بدء الحرب، لكننا لا نستطيع العمل إلا خلال النهار الآن، فلا يوجد تمويل للعمل خلال نوبات ليلية”.
وأُعلن عن تفشي وباء الكوليرا في الرنك في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وانتشر الوباء في معظم أنحاء جنوب السودان، بما في ذلك العاصمة جوبا، متسبباً في وفاة أكثر من 450 شخصاً.
ويحذر تاتيك وونديمو ماميشا، مسؤول الطوارئ في منظمة الصحة العالمية في جنوب السودان، من المخاطر المتزايدة.
ويقول لبي بي سي: “على الرغم من السيطرة على تفشي الكوليرا، إلا أننا لم نتجاوز مرحلة الخطر بعد. ففي الوقت الحالي، ترتفع حالات الملاريا بشكل حاد، ومع اقتراب موسم الأمطار، سترتفع بشكل أكبر”.
ويضيف تاتيك أن الآثار المترتبة على خفض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمساعدات العالمية مدمرة، إذ “أوقف خمسة من شركائنا خدماتهم أو قلصوا عملياتهم بنسبة 50 في المئة” على حد قوله.
وفقدت مستشفيات مثل مستشفى الرنك ريفيرال نصف موظفيها، بمن فيهم الجراحون وأطباء التوليد وأطباء الأطفال، مما زاد الضغط على الكادر الطبي المتبقي.
ويقول تاتيك: “يعالج المرفق ما بين 350 و400 مريض يومياً”.
يشعر الأطباء بالقلق إزاء انتشار الأمراض بين اللاجئين© Hassan Lali / BBC
تُسلّط أزمة اللاجئين في الرنك الضوء على واقع عشرات الآلاف العالقين بين صراعين، حيث لم تعد أجزاء من جنوب السودان أمنة للفارين من الصراع المستمر منذ عامين في السودان.
وتصاعدت التوترات في جنوب السودان منذ مارس/آذار عندما وُضع مشار قيد الإقامة الجبرية بعد اتهامه من قِبَل حلفاء كير بدعم الجماعات المسلحة – وهو ادعاء ينفيه حزبه.
وحذّر جورج أوينو، رئيس هيئة مراقبة شُكّلت بموجب اتفاق السلام لعام 2018 للمساعدة في تنفيذه، من أن الاشتباكات الأخيرة “تُهدّد أسس الاتفاق”.
وصرح لبي بي سي أن المشكلة الأساسية تكمن في استمرار القادة السياسيين في قيادة القوات المتنافسة، وفشلهم في دمجها في جيش وطني موحّد.
ويقول أوينو: “لا تزال الصلة بين السياسة والقوة العسكرية قائمة”، لكن “عندما يختلف القادة، سرعان ما يتحول الأمر إلى مواجهة مسلحة – وهو بالضبط ما كان من المفترض أن يمنعه الاتفاق” على حد تعبيره.
واندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 2013 بعد أن أقال كير، نائبه مشار من منصبه، متهماً إياه بالتخطيط لانقلاب، بينما اتهمه مشار في المقابل بأنه “ديكتاتور”.
وانتهت الحرب الأهلية المدمرة عقب اتفاق السلام عام 2018 بإعادة تعيين مشار نائباً للرئيس.
ويقول أوينو: “كان هناك حوار أكثر داخل الرئاسة، ولكنه تراجع”.
وفشل الاتحاد الأفريقي حتى الآن في جهوده لإعادة عملية السلام إلى مسارها الصحيح، بينما نشرت أوغندا قوات في جنوب السودان لدعم موقف كير.
ويقول حزب مشار إن نشر القوات يقوض سيادة جنوب السودان واتفاق السلام، بينما تدافع كل من أوغندا وحكومة كير عن نشر القوات، مؤكدتين أنه يتوافق مع اتفاقية أمنية طويلة الأمد بين البلدين.
مع ذلك، يُظهر نشر القوات مدى هشاشة قبضة كير على السلطة، بينما تتزايد المخاوف من استئناف حرب أهلية شاملة، وعلى الجانب الآخر من الحدود، لا تزال الحرب الأهلية مستعرة في السودان، مع إعلان دقلو تشكيل حكومة منافسة.
وتأتي هذه الخطوة رغم فقدان قواته السيطرة على الخرطوم، التي أصبحت هيكلاً محترقاً، بمبانيها المدمرة والمتفحمة جراء القصف.
وتقول سارة إنها لا تنوي العودة إلى الخرطوم، وقررت أن تحاول إعادة بناء حياتها في وطنها، “حتى لو كان الوضع سيئاً”.