السودان والازمة الإنسانية القاتلة: الجذور والتداعيات والسعي للاستجابة الإنسانية

التنقل عبر اليأس: الأثر الإنساني وتحديات الاستجابة في السودان

متابعات دارفور :إسماعيل هجانه

بالانتقال من جذور الأزمة المزمنة في السودان إلى عواقبها الوخيمة، يتعمق هذا الجزء الثاني من سلسلتنا في الواقع المؤسف والمؤلم للتأثير الإنساني الذي بات يسكن في جميع أنحاء البلاد. إن عمق المعاناة، التي تتسم بالنزوح على نطاق واسع، وسوء التغذية، وانهيار نظام الرعاية الصحية، يرسم صورة قاتمة للصراعات اليومية التي يواجهها الملايين. في هذا الجزء، نهدف إلى سد الفجوة بين فهم الأسباب الأساسية للاضطرابات في السودان وفهم الآثار الملموسة والمحزنة على شعبه.

إن السرد الذي ينتظرنا هو الصمود وسط اليأس، مما يسلط الضوء على التحديات الهائلة التي ظهرت في مواجهة محاولة تقديم المساعدات والإغاثة. بدءًا من الكوابيس اللوجستية المتمثلة في تقديم المساعدة الإنسانية في مناطق النزاع إلى النقص المالي الذي تعاني منه جهود الاستجابة الدولية، يستكشف هذا الجزء العقبات المتعددة الأوجه التي يواجهها أولئك الموجودون على الأرض وفي المجتمع الإنساني العالمي والمحلي الذين يسعون جاهدين للتخفيف من حدة الأزمة.

وبينما نزيح الستار عن طبقات المعاناة الإنسانية والمساعي المبذولة لمعالجتها، تكون هذه المناقشة بمثابة تذكير حاسم بالحاجة الملحة إلى استجابة إنسانية منسقة وشاملة. من خلال دراسة تأثير أزمة السودان من خلال عدسة أولئك الذين يعانون منها بشكل مباشر والمنظمات التي تناضل من أجل إحداث فرق، فإننا ندعو القراء إلى التفكير في أهمية التضامن والدعم والحلول المستدامة في مواجهة الشدائد الساحقة.

 الأثر الإنساني للنزاع في السودان

إن الأثر الإنساني للصراع مذهل بل مرعب خاصة عند النظر اليه عن قرب وتأمل تفاصيله الماساوية. ويتأثر الأطفال بشكل خاص، حيث أفادت اليونيسف UNICEF أن “أكثر من مليوني طفل في السودان يعانون من سوء التغذية”. بل قال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية اوتشا UNOCHA ” ان بين كل ثمانية نازح في العالم يوجد سوداني” وتقدر نسبة السودانيين المحتاجين للمساعدات الانسانية وفقا لتقارير الأمم المتحدة تقدر بنحو “24 مليون شخص” أي ما يعادل نصف سكان هذه الدولة الفاشلة، ويمتد تأثير الصراع إلى ما هو أبعد من السلامة البدنية، مع الانتهاكات الجسيمة ضد سلامة الأطفال، وتعطيل التعليم الذي يهدد “بإخراج مستقبل 19 مليون طفل في سن الدراسة عن مساره التعليمي” كما تقول اليونيسف UNICEF.

وأصدر برنامج الأغذية العالمي WFP بيانا يدعو إلى “وصول المساعدات الإنسانية دون قيود لدعم الأشخاص الذين يعانون من أعلى مستويات الجوع والمحاصرين في بؤر الصراع الساخنة”. وفي الوقت الحالي، يعيش واحد فقط من كل عشرة أشخاص في مستويات الطوارئ من الجوع في مناطق يمكنهم تلقي المساعدة فيها بسبب القيود المفروضة على الوصول والقتال المستمر. وتحذر لجنة الإنقاذ الدولية أيضًا من أن السودان يعاني من أزمة جوع حادة. دقت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) FAO ناقوس الخطر بشأن تفاقم أزمة الأمن الغذائي في السودان، وحثت على “اتخاذ إجراءات فورية وجماعية لتجنب كارثة إنسانية وشيكة.

تتعرض أجزاء من السودان لخطر الانزلاق إلى ظروف جوع كارثية بحلول موسم العجاف في العام المقبل إذا لم تتمكن المنظمات الإنسانية، بما في ذلك برنامج الأغذية العالمي، من توسيع نطاق الوصول وتقديم المساعدات الغذائية بانتظام للأشخاص المحاصرين في مناطق النزاع الساخنة مثل وحذر برنامج الأغذية العالمي من الخرطوم ودارفور وكردفان”.

وقد أدت هذه الحرب أكبر هجرة خارج السودان، إذ تقدر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR عدد اللاجئين السودانيين بما يتجاوز 1.7 مليون منذ بداية الحرب الاخيرة، واذا اضفنا أعداد اللاجئين من السودان جراء الحروب السابقة فان الاعداد ستكون مرعبة. وجلهم يعيشون في ظل أوضاع انسانية مأساوية لا توصف، حيث نطالع ذلك بازهاب في قصص السودانيين اللاجئين المحزنة التي فضل بعضهم العودة إلى السودان كما أوضحت بعض التقارير الاحصائية، حيث يفضلون العودة الى جحيم الحرب من نعيم مأمول لا وجود له إلا في قصص ألف ليلة وليلة.

وفقا لصحيفة مداميك يوم 22 فبراير 2024 ” أعلنت هيئة محامي دارفور وشركاؤها انها ستتقدم بشكوى للمفوض السامي للاجئين و للأمين العام للأمم المتحدة لتكوين لجنة للنظر في القصور والتجاوزات الممارسة بمكاتب المفوضية السامية للاجئين بالقاهرة وفي تحديد المواعيد والمقابلات”. مما يعكس فقط قمة رأس جبل الجليد في معاناة السودانيين الفارين من الحرب في كل البلدان التي وصلوا إليها بحثا عن الامن والامان.

كما تلقت الرعاية الصحية هي الاخرى ضربة قوية. وتشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر International Committee of the Red Cross إلى أن “النزاع دمر مرافق الرعاية الصحية في مناطق النزاع، مما ترك الملايين دون الحصول على الرعاية الصحية الكافية”. وقال ديفيد ميليباند الرئيس والمدير التنفيذي للجنة الدولية للإنقاذ IRC علي صفحته في لينكدن 23 ابريل 2024: “السودان، رقم 1 على قائمة مراقبة لجنة الإنقاذ الدولية هذا العام، هو الآن أكبر أزمة نزوح في العالم”.

ووفقا لتلك القائمة احتل السودان المرتبة الأولى في قائمة المراقبة، تليه غزة في المرتبة الثانية، فقد دفعت الحرب المستمرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع السودانية البلاد إلى حافة الانهيار. وهي حرب امتداد لحروب السودان بسبب الاختلالات البنيوية الممنهجة التي تسببت في كل حروبه السابقة والحالية. ووفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية WHO فإن ما “يقارب ال 70٪ من المرافق الصحية باتت خارجة الخدمة وتعاني من نقص حاد في المعينات الصحية والادوية المنقذة للحياة”.

مع استمرار الأوضاع المتردية بسبب الحرب تظهر معضلة خدمات الرعاية الصحية الأولية في الواجهة، حيث “يتزايد تفشي الأمراض في ظل انقطاع خدمات الصحة العامة الأساسية، بما في ذلك مراقبة الأمراض، ووظائف مختبرات الصحة العامة وفرق الاستجابة السريعة.

بالإضافة إلى ذلك، لا يزال انعدام الأمن والنزوح ومحدودية الوصول إلى الأدوية والإمدادات الطبية والكهرباء والمياه تشكل تحديات هائلة أمام تقديم الرعاية الصحية في جميع أنحاء البلاد. ويفتقر حوالي 65 في المائة من السكان إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، كما أن ما بين 70 إلى 80 في المائة من المستشفيات في المناطق المتضررة من النزاع لم تعد تعمل.

تم الإبلاغ عن حوالي 10,500 حالة يشتبه بإصابتها بالكوليرا، بما في ذلك 292 حالة وفاة، في تسع ولايات حتى 27 يناير،” وفقًا لوزارة الصحة الفيدرالية في بورتسودان (FMoH) ومنظمة الصحة العالمية (WHO). ويستمر تفشي أمراض أخرى في عدة ولايات، “بما في ذلك الحصبة (4650 حالة مع 106 حالة وفاة)، والملاريا، وحمى الضنك”.

ولكم أن تتصوروا حجم معاناة المواطنين في ظل كل هذه الظروف البالغة التعقيد و محاطين بأهوال ومصائب الحرب و كوابيسها المرعبة التي لا توصف. “قد أدى توسع القتال المستمر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى أجزاء من وسط وشرق السودان – أهم مناطق البلاد لإنتاج المحاصيل – إلى زيادة كبيرة في الاحتياجات الإنسانية خلال موسم الحصاد (ديسمبر ويناير)”، وفقًا لـ شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة. وقد أدت هذه التطورات الكبيرة والمتلاحقة إلى تدهور كبير في انعدام الأمن الغذائي الحاد في غرب وجنوب وجنوب شرق البلاد عما كان متوقعا في السابق، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل. 

ويدمر الصراع سبل عيش ملايين الأشخاص في السودان. يتوقع صندوق النقد الدولي (IMF) “أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسودان بنسبة 18.3 في المائة في عام 2024. ووفقاً للبنك الدولي، انكمش الاقتصاد بنسبة 12 في المائة في عام 2023 حيث أدى الصراع إلى توقف الإنتاج وتدهور الاقتصاد. تدمير رأس المال البشري وقدرات الدولة”. وعلى سبيل المقارنة، “تقلصت اقتصادات اليمن وسوريا بنحو 50 في المائة خلال العقد الماضي، أو حوالي 5 في المائة سنويا في المتوسط. وتسير وتيرة الانكماش الاقتصادي في السودان إلى أكثر من ضعف هذا الانخفاض”

واختتم هذا الجزء بما قالته حركة جيش تحرير السودان بقيادة الدكتور الهادي ادريس الأحد 25 فبراير 2024 ” ان الوضع الانساني بولايات دارفور ينذر بوقوع مجاعة حقيقية تهدد حياة سكان الإقليم، مضيفة ان النازحين والمواطنين بمراكز الإيواء لجأوا أكل ثمار الأشجار وحفر بيوت النمل للحصول على قوت يومهم”. وهي صورة معبرة بدقة عن مدلولها ولما آلت اليه أحوال المواطنين في ظل هذه الحرب.

تحديات الاستجابة الإنسانية

في ظل هذه الظروف المعقدة، يحاول العاملون في القطاع الإنساني بذل اقصى ما لديهم من اجل ايصال المساعدات الانسانية للمحتاجين، ولكن للاسف ظلوا هم عرضة للانتهاكات التي وصلت حد القتل والتصفية، والاعتقالات في احسن الاحوال.

حيث قالت المنسقة الأممية للشؤون الإنسانية في السودان كليمنتان سلامي تصريح صحفي الاحد 25 فبراير 2024 : “أشعر بالقلق إزاء التقارير التي تفيد بوقوع هجمات عنيفة على المتطوعين يعملون مع منظمات المجتمع المدني وع=غرف الاستجابة للطوارئ التي تقدم الخدمات الاساسية للنساء والرجال والاطفال في المناطق التي يصعب الوصول إليها في أم درمان والخرطوم وأماكن أخرى في السودان”

 ومن ناحية اخرى، تواجه خطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2024 تحديات هائلة وسط الأزمة المتعددة الأوجه التي تعيشها البلاد. إن حجم النزوح وانعدام الأمن الغذائي بلغ أرقاما مزهلة، حيث أفادت الأمم المتحدة بوجود أكثر من 2.5 مليون نازح في دارفور، ومع كل هذه التحديات والأوضاع المزرية التي يعيشها النازحون في دارفور، فقد أصدرت وزارة الخارجية المخطوبة قرارا قضى بوقف ومنع دخول المساعدات الانسانية إلى دارفور عبر تشاد. ويشير برنامج الأغذية العالمي إلى أن الجوع الحاد يؤثر على أكثر من 9.6 مليون شخص بسبب الصراع الطويل والانكماش الاقتصادي.

هذه الأرقام هي تذكير واضح وصريح جدا بفداحة الأزمة، حيث أن التحديات اللوجستية في تقديم المساعدات والفجوة الكبيرة في التمويل تزيد من تعقيد جهود الاستجابة.

إن نداء الأمم المتحدة للحصول على مبلغ إجمالي قدره 4.1 مليار دولار أمريكي لتلبية الاحتياجات العاجلة للمدنيين واللاجئين يسلط الضوء على العجز المالي الهائل، حيث تهدف الخطة إلى مساعدة 14.7 مليون من الأفراد الأكثر ضعفاً بميزانية قدرها 2.7 مليار دولار أمريكي. وعلى الرغم من النطاق الطموح لهذه الخطة، إلا أن الواقع لا يزال قاتما، حيث لم يتم الوصول إلا إلى 7.3٪ فقط من السكان المستهدفين حتى الآن، مما يؤكد الحاجة الملحة لزيادة الدعم والموارد للتغلب بشكل فعال على هذه التحديات وتخفيف المعاناة في السودان.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد