الرحلة التي لا تنتهي: شهادات النساء والأطفال الفارين من الفاشر

تقرير: انعام النور

في صباح باكر خرجت صالحة ابراهيم (28) عام , ممسكة بيد طفلتها الرضيعة، كانت تنظر خلفها إلى مدينة الفاشر التي تركتها خلفها لا تعرف إن كانت ستراها مرةً أخرى. تقول وهي تهمس بصوت مبحوح من التعب: “أنا شفت بعيني كيف قتلوا ولدى عمره 12 سنة. ضربوها بالرصاص في رأسها بعدين قالوا لي: ‘أبكي عليها بسرعة قبل دورك’. أنا جريت، ما بعرف كيف وصلت طويلة.

هذه هي البداية، البداية التي تعكس مئات الآلاف من النساء والأطفال الذين اقتلعهم النزاع، وتحوّلت مدينتهم التي كانوا يعتقدون أنها مأوى إلى نقطة انطلاق نحو المجهول. إنها رحلة من الخوف والملاحقة والانتظار، تبدأ في مدينة الفاشر ثم تمضي إلى مخيّمات طويلة الأمد ، مخيّمات لم تُبنَ للتجوال والعودة، بل لاستيعاب محنةٍ إنسانيةٍ جسام.

رحلة الموت.. من الفاشر إلى طويلة

قالت سامية ابراهيم ، وهي امرأة خمسينية نجت من جحيم الفاشر، إنها فرت من المدينة مع أطفالها الثلاثة وحفيدها الرضيع، بينما كانت القذائف تمطر الشوارع أمامهم وخلفهم.

تقول “كنا بنجري وما بنعرف ماشين وين… النار في كل مكان، والصراخ مالي السما، زوجي كان بيجري وراي، لكن فجأة ما شفتو تاني.”

وتروي إكرام أن قوات الدعم السريع أقامت حواجز ترابية حول المدينة، وأنها أُوقفت عند أحدها مع عشرات النساء والرجال الذين كانوا يحاولون الفرار.

و تضيف “فصلونا، قالوا النسوان على جنب، والرجال على جنب. بعدين صفّوهم صف واحد، وقالوا: ’الجنود يسلموا نفسهم‘. ما في زول رفع يدو. بعدها بدأوا يختاروا كم واحد من النص… وسمعنا صوت الرصاص.”

تتوقف قليلًا، ثم تهمس:

“وقعوا قدامنا… الرجال اتقتلوا هناك، ونحن مشينا ساكتين. لكن لحد الليلة ما رجع منهم زول.”

تحمل إكرام على ذراعيها حفيدًا رضيعًا فقد والديه أثناء الحصار تقول وهي تنظر إليه بعينين غائرتين: “ما لقيت ليهو لبن، كنت بديه علف البهائم بعد ما أنقّيه بالمويه.
جسمو ضعف، والدموع ما بتكفي مرة واحدة بس قدرت ألقى ليهو حليب، بعدين كنت بسقيهو محلول الجفاف لحد ما وصلنا طويلة.”

إكرام، مثل مئات النساء اللواتي وصلن سيرًا على الأقدام إلى منطقة طويلة، تحمل في صوتها بقايا مدينة أُطفئت أنوارها.

إمراة نازحة

ويقول أبو بكر أحمد، أخصائي التغذية بمنظمة اليونسيف: “فر الأسبوع الماضي أكثر من 6 آلاف شخص من الفاشر إلى طويلة بسبب الحرب، معظمهم نساء وأطفال، ولا يزال النازحون يتوافدون يوميًا”.

وأضاف أحمد: “النازحون يأتون في حالة سيئة للغاية، ويرجع ذلك إلى الطرق الطويلة بين المدينتين والتي تصل إلى أكثر من 68 كيلومترًا، وهم يأتون مشيا على الأقدام لمدة 4 أيام، وبعضهم استغرق 5 أيام أو أكثر”.

هذه الرحلة، التي شهدت عمليات نهب منهجية ونقاط تفتيش تعسفية، كانت الفصل الأول من رعب طويل. نساءٌ ركضن حافيات، وأخريات سحبن أطفالاً جرحى ينزفون بصمت، وكأن العالم لم يعد يصلح للبكاء. لم تكن قوات الدعم السريع تبحث عن مقاتلين، بل كانت تستهدف المدنيين العزل، كما تؤكد جميع الشهادات.

وتضيف “أم محمد أن “الطريق كان مقبرة مفتوحة. شفت بنت جارنا، عمرها ما تجاوزت الستة عشر ربيعاً، ملقاة على قارعة الطريق وملابسها ممزقة. ما قدرنا نوقف ولا ندفنها. الخوف كان أقوى من أي شيء. كل خطوة لك فيها احتمال الموت، والتوقف هو الموت نفسه.”.

و تقول سامية ابراهيم متطوعة في منظمة حقوقية في طويلة ، لم تكن عمليات القتل في الفاشر مجرد أحداث عشوائية في خضم المعارك، بل كانت تمارس بشكل منهجي بهدف بث الرعب في نفوس المدنيين. لقد تحولت الساحات العامة وواجهات المنازل إلى مسارح للإعدام، حيث كان الأهالي يُجبرون على مشاهدة إعدام أبنائهم وأقربائهم. الرجال كانوا يُقتادون من منازلهم ويُعدمون على مرأى من زوجاتهم وأطفالهم، في مشاهد مُفتعلة هدفها تحطيم كرامة الإنسان وإخضاع المجتمع بأكمله.

و تضيف الأطفال أيضاً لم يكونوا بمنأى عن هذا العنف المنظم، فكثيرون منهم قُتلوا بشكل متعمد أمام أعين أمهاتهم. بعضهم قُتل لأنهم بكوا من الخوف، وآخرون قُتلوا كنوع من العقاب الجماعي. لقد تجاوز الأمر مجرد القتل العشوائي إلى سياسة ممنهجة لضمان عدم بقاء أي أمل في النفوس.

تتكرر القصة ذاتها على ألسنة كثيرات؛ طفلٌ يُقتل لأنه بكى، وآخر لمجرد أنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. القتل هنا لم يكن وسيلة لتحقيق هدف، بل كان هدفاً بحد ذاته، أداة لكسر روح المجتمع وإخضاعه.

إبادة ممنهجة للنساء

في إفادة صادمة تكشف النطاق المرعب للانتهاكات، أكدت سليمى إسحق، وزيرة الدولة بوزارة الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية والعمل، أن هجمات قوات الدعم السريع استهدفت بشكل متعمد الملاجئ الآمنة ومسارات النزوح بمدينة الفاشر، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 300 امرأة.

وأضافت الوزيرة أن هذه الهجمات لم تكن عمليات قتل عابرة، بل صاحبتها أعمال تعذيب ممنهج وجرائم عنف جنسي ارتكبت بحق النساء والفتيات قبل قتلهن، مما يؤكد طبيعة المخطط لها لهذه الهجمات.

وأشارت إلى أن بعض المواقع شهدت انتهاكات واسعة النطاق وخاصة بحق المدنيين من النساء والأطفال، مما يضعها في إطار الجرائم المنظمة.

و كشف المتحدث الرسمي باسم المنسقية العامة لمخيمات النازحين واللاجئين في دارفور، آدم رجال، أن أكثر من 150 امرأة تعرضن لعمليات اغتصاب وتحرش جنسي خلال رحلة فرارهن من مدينة الفاشر إلى منطقة طويلة .

قتل الأطفال.. الصمت الذي يصرخ

تروى “سارة تاج السر”، المحامية التي تحولت إلى شاهد ، بلكنة ممزوجة بالذكريات الدامية: “واحد من المسلحين ضرب ابني قدام عيوني. لم أستطع الصراخ، لم أستطع الحراك، كانت عيناه تطلبانني ولم أستطع الوصول إليه. قلت خلاص نموت كلنا، لكن جريت به وكأني أجرّ أشلاء روحي.”

وتضيف: “لكن المشهد الأكثر قسوة لم يكن في الشوارع، بل كان في تلك الليلة التي سمعت فيها صراخ أمهات يعرفن بعضهن من لون الجلباب فقط، لأن الوجوه لم تعد تُرى، والعيون لم تعد تبصر سوى الظلام. سمعنا صراخ أمهات آخرين يفقدن أبناءهن.”

وفي بيان صادم كشفته “تنسيقية لجان مقاومة الفاشر”، وصل أكثر من 450 طفلاً إلى “مناطق آمنة” دون أسرهم، بعد أن فقدوا ذويهم أثناء الفرار من القصف والاعتداءات على المدنيين في مدينة الفاشر.

وأفادت التنسيقية في بيانها بأن “هناك أطفالاً وجرحى ما زالوا في العراء بلا مأوى ولا حماية بعد خروجهم من الفاشر”.

وتضافرت هذه المشاهد مع تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” الذي أكد أن النازحين من الفاشر قطعوا 60 كيلومتراً مشياً على الأقدام إلى منطقة طويلة من دون طعام أو ماء.

و حذرت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل من أن ما يقدر بنحو 130 ألف طفل في الفاشر معرضون لخطر الانتهاكات الحقوقية الجسيمة، في ظل تقارير عن الاختطاف والقتل والتشويه والعنف جنسي، وشددت على أنه “لا يوجد طفل في مأمن” في عاصمة شمال دارفور.

تقارير المنظمات الحقوقية الدولية تؤكد هذه الأنماط، حيث سجلت عشرات الحالات لإعدامات خارج نطاق القضاء.

العدد الأكبر من النازحين هم من النساء والأطفال. إذ تشير تحليلات إلى أن أكثر من ٥٤٪ من النازحين داخل السودان هم من النساء، وأن حوالي ٥٣٪ هم من الأطفال.

الإعدامات والقتل أمام الأعين: سياسة الترويع المنظم

تقول محاسن “ناشطة نسوية” لم تكن عمليات القتل في الفاشر مجرد أحداث عشوائية في خضم المعارك، بل كانت تمارس بشكل منهجي بهدف بث الرعب في نفوس المدنيين وتحطيم إرادة الحياة فيهم. و تضيف لقد تحولت الساحات العامة وواجهات المنازل إلى مسارح دائمة لعروض الإعدام، حيث كان الأهالي يُجبرون على مشاهدة إعدام أبنائهم وأقربائهم في مشاهد مُفتعلة هدفها تحطيم كرامة الإنسان وإخضاع المجتمع بأكمله.

اما سارة عبدالله (40 عاماً)، إحدى الناجيات التي فقدت زوجها واثنين من أبنائها تقول : “جاءوا فجراً واقتحموا البيت. أمسكوا بزوجي وأبنائي وصفوهم في ساحة الحي. كنت أصرخ وأتوسل، فضربوني بالبندقية على رأسي. عندما أفقت، كانوا يعدون: واحد… اثنين… ثلاثة… ثم انطلقت الرصاصات. رأيت جثثهم تتهاوى الواحدة تلو الأخرى أمام عيني. الأصوات لا تزال تدوي في أذني كل ليلة.”

وتروى أميمة أحمد (35 عاماً)، وهي أم لخمسة أطفال: “لم يكتفوا بقتل زوجي أمامي. أمسكوا بابني البكر محمد (14 عاماً) وسألوه: ‘تبكي على أبوك؟’ وعندما لم يجب من شدة الخوف، أطلقوا النار على رأسه. قالوا لي: ‘خلي دموعك لعيالك الباقين’. كانوا يضحكون وهم يغادرون.”

و تضيف الأطفال أيضاً لم يكونوا بمنأى عن هذا العنف المنظم، فكثيرون منهم قُتلوا بشكل متعمد أمام أعين أمهاتهم.

و تُدلي فاطمة محمود (32 عاماً) بشهادتها وهي ترتجف: “ابنتي سارة (5 سنوات) كانت تختبئ خلفي. عندما سمعت أصوات الرصاص، بدأت تبكي. أحد المسلحين جاء وأمسك بها من ذراعها الصغير و من ثم أطلق النار عليها ، سقطت أمام عيني ، لم أعد أسمع شيئاً بعد ذلك.”

التوثيق عبر وسائل التواصل الاجتماعي

الأمر الأكثر قسوة هو أن بعض هذه الجرائم وُثّقت ونُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لبث الرعب على نطاق أوسع.
تقول سلمى إدريس (28 عاماً): “اكتشفت أن أخي قُتل عندما شاهدت مقطع فيديو على الإنترنت. كانوا يصورون عملية الإعدام ويعلّقون، لم أستطع إكمال المشهد.”

وفي الأسابيع الأخيرة، برز نمط أكثر خطورة، إذ أصبحت أفراد قوات الدعم السريع نفسها هي من توثّق الانتهاكات وتبثّها بشكل مباشر أو عبر حسابات تابعة لها، مستعرضة عمليات الإعدام الميداني، والاعتداء على المدنيين، ونهب الممتلكات، مستخدمة لغة تهديد صريحة تهدف إلى ترهيب المجتمعات المحلية وإرسال رسائل عقابية لكل من يفكّر في المقاومة أو الهرب.

الذاكرة المقتولة: جراحات لا تلتئم

يؤكد مختصون أن ما يجري ليس عنفًا عابرًا ولا حوادث فردية، بل منهج متكامل لبث الرعب وتدمير البنية النفسية للمجتمع.

ويوضح د. ع ح ، الأخصائي النفسي في منطقة طويلة ، أن المشاهد التي تُرتكب أمام الأسر ليست صدفة، بل فعل مقصود يحمل دلالات عميقة: “هذه ليست مجرد عمليات قتل عشوائية، بل هي إستراتيجية مدروسة للترويع. قتل الأبناء أمام الأمهات، والأزواج أمام الزوجات، يخلق صدمة جماعية تدوم لأجيال. الهدف ليس القضاء على الأفراد فحسب، بل تدمير النسيج الاجتماعي كله.”

و يضيف هذا الترويع المتعمّد يجعل الخوف ينتقل من الضحية المباشرة إلى العائلة والمجتمع بأكمله، ليصبح الألم ميراثًا ممتدًا يعيد تشكيل الوعي الجماعي.

ويعزّز هذا التحليل ما يرصده الأطباء في الميدان. و يروي دكتور فضل حجب إسمه يعمل بمستشفى طويلة، صورًا طبية تهزّ الوجدان: “استقبلنا حالات لأمهات فقدن القدرة على الكلام بعدما شهدن مقتل أطفالهن. بعضهن يحملن جثث أطفالهن لساعات دون أن يدركن أنهم ماتوا.

هذه جرائم لا تُمحى من الذاكرة.” يقف الأطباء أمام انهيار نفسي حاد تظهر فيه علامات الصدمة الفورية: التجمّد، فقدان النطق، الانفصال عن الواقع، وانهيار الحواس أمام مشاهد لا يتحملها العقل البشري.

هكذا تتكامل حلقات العنف: من الفعل الوحشي، إلى التوثيق العلني، إلى الأثر النفسي المدمّر، في منظومة هدفها إعادة تشكيل المجتمع عبر الخوف، وتمزيق روابطه الأعمق، وكسر ما تبقى من قدرة الناس على المقاومة أو النجاة.

على الرغم من محدودية الوصول للمناطق المتأثرة وصعوبة الاتصال، إلا أن المعلومات المتاحة تشير إلى تدهور مستمر في الوضع الإنساني، وتزايد أعداد الواصلين إلى مخيمات طويلة في ظروف تُنذر بأزمة ممتدة. وتبرز الحاجة العاجلة لخطط إغاثة أكثر فعالية، ومراقبة مستقلة، وتحقيقات مهنية يمكن أن تضع حدًا للإفلات من العقاب.

ما بين الفاشر وطويلة، تتكشف صورة واضحة: مدنيون تُركوا بلا حماية، وانتهاكات تتكرر دون رادع. ورغم أن الطريق طويل نحو العدالة والمساءلة، إلا أن توثيق هذه الشهادات يظل خطوة أساسية لضمان عدم طمس ما حدث، ولبناء فهم واقعي لما يواجهه السكان في أكثر مناطق السودان هشاشة.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد