متابعات دارفور: إنعام النور
في الصحراء بين السودان وليبيا، كانت الرياح تحمل صرخاتٍ لا تصل إلى أحد. هناك، في اللاشيء، بين رمالٍ حارقة ونهاراتٍ بلا ظل، تركت عشرات النساء السودانيات أجسادهن على الرمال مقابل أن يعبرن إلى “النجاة”. كانت السماء شاهدة، والسكوت حارسًا لجريمةٍ لا تُكتب في التقارير. بعضهن سقطن مغشياتٍ من الخوف، وبعضهن حملن العار معهن إلى الحدود، ليدخلن ليبيا ليس كلاجئات، بل كناجيات مثخناتٍ بالجراح.
تقول آمنة إدريس، وهي امرأة من الفاشر في الثلاثين من عمرها، إنها ما زالت تسمع صراخ رفيقاتها حتى الآن:
“أوقفونا في منتصف الطريق، قالوا إنهم حراس. أخذوا البنات، ونحن واقفات نشوف وما قادرين نتحرك. سبعة أيام في الصحراء كأنها سبع سنين من الجحيم. لما وصلنا ليبيا كنا أشباح، ما بشر.”
قبل أن تطأ أقدامهنّ ليبيا، كانت الصحراء قد أخذت حصّتها منهن.
سبعة أيامٍ من التيه في حرٍّ لا يُطاق، بين رمالٍ تبتلع الخطى وسماءٍ لا ترحم، تركت قافلة النساء السودانيات خلفها آخر خيوط الأمل. في اليوم الثالث، ظهرت سيارةٌ صغيرة تتأرجح على الكثبان. نزل منها خمسة رجال مسلحين، وجوههم مغطاة، قالوا إنهم “حراس الطريق”، لكن الطريق لم يكن بحاجة لحراس… بل لرحمة.
تضيف أمنة “قالوا لينا ننتظر شوية، بعدين طلبوا من الرجال يتحركوا قدام، و النساء تبقى ورا. قسمونا الي مجموعتين وأنا كنت في المجموعة التانية. قاومنا، لكن ما في زول سمعنا. واحد ضربني بعصا في ضهري، اغتصبونا في نص النص، في عز الشمس. بعد ما خلصوا، خلونا مرميين زي جثث، والرجال في القافلة ما قدروا يرجعوا، كانوا خايفين يتقتلوا.”

من هناك تبدأ الحكاية، لا من الحرب في الخرطوم، بل من الصحراء التي تُعيد تشكيل مصير النساء وتختبر حدود تحمّلهن.
في ليبيا، الدولة التي تحولت من معبرٍ إلى مصيدة، وجدت آلاف النساء السودانيات أنفسهن في دوامةٍ جديدة، بين سماسرة اللجوء، وموظفين يبتزون أجسادهن باسم “المساعدة”، ومؤسساتٍ دولية فقدت ضميرها الإنساني. هناك، لا تحتاج الحرب إلى بنادق، يكفي أن تكوني امرأة… وسودانية.
هربت امتنان عمر من أم درمان، حاملةً طفلتها المريضة وكيسًا صغيرًا فيه بقايا حياة. لم تكن تدري أن الطريق إلى النجاة سيأخذها إلى ساحة أكثر قسوة، حيث يصبح الجسد هو الثمن، والنجاة صفقة تُعقد في الظلام.
قصة امتنان ليست استثناء، بل مرآة تعكس ما يحدث بصمت خلف أسوار المؤسسات الدولية ومكاتب الإغاثة، حيث تُغتصب الثقة قبل أن تُغتصب الأجساد.
حلم اللجوء يتحوّل إلى كابوس
حين اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023، لم تجد امتنان وقتًا لتودّع بيتها في أم درمان. حملت طفلتها وذكرياتها، و رحلت نحو الشمال مع قوافل النازحين. على امتداد الصحراء، كانت تسمع أن ليبيا هي “الممر الآمن”، لكن الطريق كان حفرةً أخرى من الجحيم.
في طرابلس، حصلت بعد ثلاثة أشهر من الانتظار على موعدٍ في مفوضية اللاجئين. كانت تتطلع إلى تلك اللحظة كنافذة أملٍ أخيرة. إلا أن تلك المقابلة كانت بداية انهيارٍ جديد. بعد خروجها من المبنى، اعترضها ثلاثة رجال على الطريق العام. سرقوا حقيبتها وهاتفها وكل وثائقها، وتركوها. في تلك اللحظة فهمت أن الحرب لا تُغادر جسد اللاجئ، حتى لو غادر بلاده.
تقول امتنان: “أصبحت بلا أوراق ولا حماية. ذهبتُ إلى الشرطة فلم يستمعوا لي، قالوا إنني مهاجرة غير شرعية. بعدها بدأت المكالمات المجهولة، أصوات تقول لي إنهم يعرفون موقعي وإن بإمكانهم ‘المساعدة’ مقابل شيء بسيط. عرفت أنهم من سرقوا أوراقي ، كانوا يريدون جسدي.”
وتؤكد ناشطة ليبية تعمل في مجال الحماية النسائية فضلت حجب إسمها أن هذه الحالات أصبحت روتينًا يوميًا. “هناك شبكات تراقب النساء الخارجات من المفوضية. يعرفون مواعيد مقابلاتهن، يسرقون وثائقهن ثم يبتزونهن لاحقًا. بعض العصابات لديها علاقات مع أفراد في المؤسسات الرسمية، وحتى داخل المنظمات الإنسانية.”
هكذا تحوّل المكان الذي يُفترض أن يمنح الأمان إلى بوابة مفتوحة نحو الخطر، تتكاثر حولها الذئاب، بأزياءٍ مختلفة، وشعاراتٍ إنسانية مزيفة.
الابتزاز بإسم المساعدة
داخل طرابلس، تتداخل أصوات المولدات مع صرخات النساء في غرفٍ مغلقة. يروين حكاياتٍ لا تجد طريقها إلى أي تقرير رسمي، لأن الكلام هناك قد يكلّف الحياة.
تقول الصحفية السودانية فاطمة و هو اسم مستعار ، التي كانت تعمل مراسلة قبل أن تضطر للفرار من الفاشر “في ليبيا، لا تحتاج أن تكوني جميلة لتُستغلّي، يكفي أن تكوني محتاجة. العروض تأتيكِ مغلفة بلغة المساعدة. مدير منظمة يقول: يمكننا توفير سكنٍ آمن، شرط أن تكوني قريبة منه. آخر يعد بتوظيفك كمترجمة في الميدان، ثم يطلب لقاءً خاصًا. من ترفض يتم استبعادها فورًا.”
و تضيف فاطمة أن هذه الممارسات أصبحت ثقافة ظل، يتحدث عنها الجميع همسًا. “بعض زميلاتي صمتن خوفًا من الطرد أو الترحيل. هناك من اضطررن للرضوخ لأنهن بلا مأوى. ما يؤلم أن الابتزاز يأتي أحيانًا ممن يرتدون بطاقات الأمم المتحدة.”

أما هنادي حسن، ناشطة سودانية سمراء البشرة وصلت إلى ليبيا في 2024، فتقول: “قدمتُ لوظيفة مترجمة في منظمة دولية. مسؤول ليبي قال لي: (نقدر نسهّل الأمور لو كنتِ مرنة شوية). رفضت، فاختفى طلبي نهائيًا. لم أحصل حتى على رد. حين ترفضي، يُغلق الباب في وجهك. وحين تصمتي، يُفتح الباب على جسدك.”
ليست هذه القصص شذوذًا، بل نمطًا متكررًا يوثّقه ناشطون محليون بصمتٍ وغضب. خلف لافتات “حقوق الإنسان” و”تمكين المرأة”، تُدار صفقات صغيرة تسلب النساء ما تبقّى من كرامتهن.
اللون واللعنة: العنصرية كأداة إذلال
في بلدٍ تمزّقه المليشيات وتتحكم فيه الطبقية المسلحة، يتحوّل لون البشرة إلى تهمة.
تضيف امتنان: “كل مرة أتحدث فيها بلهجتي السودانية أشعر بالاحتقار. النظرات، الكلمات، حتى الأطفال في الشوارع يصرخون: عبيد!”.
هذا التمييز العنصري ليس مجرد سلوكٍ اجتماعي، بل هو وقود للاستغلال الجنسي. فالعصابات والمتنفذون يعلمون أن المجتمع لا يرى في النساء الإفريقيات قيمة، وأن الشكوى منهن لا تجد صدى لدى السلطات.
الناشطة الليبية سارة الخضر تقول: “المجتمع يتعامل مع اللاجئات وكأنهن متاحات. رجال الشرطة لا يأخذون بلاغاتهن بجدية والمجرمون يعرفون أن القانون لن يتحرك لحماية سمراء البشرة فقيرة بلا أوراق.”
هذه العنصرية تُسكت الضحايا قبل أن يتكلمن. فالصوت هنا لا يُسمع إلا إذا كان أبيض أو غنيًا أو محميًا.

جحيمٌ موثق بالأرقام
في تقارير متلاحقة للأمم المتحدة ومنظمات دولية، تتكرر الأرقام كصفعة على وجه العالم.
تقدّر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن تسع نساء من كل عشرٍ يعبرن ليبيا نحو المتوسط يتعرضن لشكلٍ من أشكال العنف الجنسي أو الاستغلال.
في تقرير بعثة الأمم المتحدة بليبيا، تمّ توثيق 27 حالة اغتصاب مؤكدة خلال عام واحد فقط، أغلبها في مراكز احتجاز تديرها مجموعات مسلحة.
أما منظمة العفو الدولية فذكرت أن النساء يُجبرن على الجنس مقابل الطعام أو إطلاق السراح، فيما أشارت تقارير المجلس الدولي للإنقاذ (IRC) إلى أن “العنف الجنسي أصبح أكثر أشكال العنف انتشارًا ضد اللاجئات السودانيات حديثات الوصول”.
(IRC) تقول أن معظم الحالات لا تُبلّغ أبدًا. الخوف من الترحيل، والعار، وانعدام الثقة، يجعل الضحايا يلتزمن الصمت. إنهنّ يمتن ببطء، في صمتٍ أشبه بالموت الثاني.
اما تقرير اللجنة الدولية للحقوقيين لعام 2025 وصف النظام القضائي الليبي بأنه “أعمى أمام جرائم الاستغلال الجنسي”. القوانين لا تذكر مصطلح “الاستغلال الجنسي”، بل تستخدم عباراتٍ مبهمة مثل “الفعل الفاحش” و”الاعتداء على العرض”. العقوبات مخففة، والتحقيقات نادرة، والمحاسبة شبه معدومة.
أما ليبيا نفسها، فليست من الدول الموقعة على اتفاقية اللاجئين لعام 1951، ما يعني أن اللاجئات لا يتمتعن بأي حماية قانونية دولية داخل أراضيها.
وفي هذا الفراغ القانوني، تتضاعف الكارثة: المنظمات تتنصّل، السلطات تتواطأ، والعالم يصمت.
شبكات الاتجار بالبشر: المليشيات تُدير السوق
في الخلفية، تعمل آلة ضخمة تغذي هذا الجحيم. فليبيا اليوم ليست فقط ممرًا للمهاجرين، بل مركزًا لتجارةٍ خفية تُدرّ الملايين.
شبكات تهريب البشر تمتد من سبها إلى طرابلس، مرورًا بغريان ومصراتة، تشارك فيها مليشيات مسلحة، وسماسرة، وأحيانًا موظفون في مؤسسات الدولة.
وفقًا لتقرير تشاثام هاوس لعام 2025، فقد تحوّل النزاع الليبي إلى غطاءٍ مثالي لتوسّع شبكات الاتجار بالبشر. فالمليشيات تسيطر على الطرق والمعابر، وتفرض إتاوات على كل قافلة بشرية تمر. النساء هنّ الغنيمة الأغلى، لأن أجسادهنّ تُباع وتُستغل وتُهدَّد بها العائلات.
ناشط ليبي: النساء يُنقلن من مراكز احتجاز إلى أخرى، وأحيانًا إلى بيوت خاصة حيث يتم استغلالهن جنسيًا هناك تجارة كاملة وراء الكواليس.”
يقول أحد الناشطين الليبيين الذي يعمل سرًا في توثيق هذه الجرائم: “لدينا أدلة على أن بعض عناصر المليشيات يتعاونون مع سماسرة يعملون تحت أسماء منظمات إغاثية.
و يضيف كل شيء هنا مترابط: المليشيات التي تملك السلاح، والسماسرة الذين يملكون الطرق، والمنظمات التي تغطي ببياناتها العجز والعار. وبين هذه الشبكات، تسقط نساء السودان في حفرةٍ لا قرار لها.
ووفقًا لتقرير منظمة العالم لمناهضة التعذيب (OMCT)، تُعد ليبيا، التي تعاني من الصراعات وانعدام الاستقرار، من أخطر نقاط العبور للمهاجرين.
ويسهم غياب حكومة مركزية قوية وانتشار الجماعات المسلحة في خلق بيئة فوضوية تتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وأشار تقرير منظمة “العالم” إلى أن هناك عددا من القوانين الليبية المساهمة في الأزمة، منها القانون رقم (19) لسنة 2010، الذي يجرّم الهجرة غير الشرعية ويمنح السلطات صلاحيات واسعة للاحتجاز والترحيل.
كما أشار التقرير إلى القانون رقم (24) لسنة 2023، الذي يمنع توطين الأجانب، والقانون رقم (19) لسنة 2001، الذي يحدّ من قدرة المنظمات غير الحكومية على تقديم الدعم.
وأن اللاجئين السودانيين في ليبيا يعيشون في بيئة قمعية تستهدف المهاجرين عبر التشريعات القاسية والظروف غير الإنسانية في مراكز الاحتجاز، والقيود المفروضة على المنظمات الإنسانية.
واضافت المنظمة أن تحسين أوضاع اللاجئين يتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية لمعالجة جذور الأزمة وتعزيز العودة الطوعية.