تفكيك الجيش السوداني : حين يصبح الهدم شرطًا لبناء السودان الجديد


الكاتب / عمار نجم الدين

في الظلام تتراقص الظلال فوق الخرائط القديمة، حيث يقف الجيش كتجلٍّ للسلطة المركزية، لا حاميًا للوطن بل ( أداة للقمع) . لعبة أزلية يتبادل فيها العسكريون والمدنيون الأدوار، بينما يبقى جوهر النظام ثابتًا. انهيار الجيش ليس كارثة، بل ضرورة تاريخية لولادة السودان الجديد و ازلة الدولة المركزية العنصرية .

السودان، حيث تتكرر المشاهد السياسية منذ الاستقلال بين عسكريين ومدنيين، يظل السؤال الأهم: هل كانت هذه الثورات والانقلابات تحولات ديمقراطية حقيقية أم مجرد تبادل أدوار؟ الحقيقة الصادمة هي أن العسكريين والمدنيين يمثلون وجهين للنخبة المركزية نفسها التي تدير الدولة وفق مصالحها.

يتناوبون على السلطة كلما فشل أحدهم في أداء دوره. يحدث هذا التبادل داخل بنية مغلقة، تُعاد فيها ترتيب الأدوار دون مساس بجوهر النظام نفسه، بينما يبقى الهامش محرومًا من أي فرصة فعلية للمشاركة أو التغيير.

إن التحليل البنيوي يكشف أن الانقلابات العسكرية ليست سوى إعادة ضبط للعبة السلطة عندما تقترب الدولة من الانهيار بسبب فشل أحد أطراف المركز، سواء كان عسكريًا أو مدنيًا. ما يجري يمكن تشبيهه بمفهوم التباديل في الرياضيات: مجموعة من العناصر تتبادل مواقعها دون تغيير الناتج النهائي. تتكرر الأدوار، فكلما تعثر الجيش وصعدت قوى الهامش كتيار ثوري صاعد يهدد المركز، يتدخل العسكريون ببيانهم الأول، يعلنون “إنقاذ الدولة” بينما هم في الواقع يُنقذون مصالح المركز.

وعندما تفشل سلطة العسكريين بسبب فوضويتهم أو غبائهم السياسي، تتدخل القوى المدنية في “ثورة” أو “انتفاضة” لإعادة السيطرة مرة أخرى لصالح المركز بواجهة جديدة. الصراع هنا ليس بين مدنيين وعسكريين كما يُخيل للناس، بل هو تناوب وظيفي وتبادل أدوار يهدف إلى الحفاظ على مصالح النخبة المركزية التي تمثل الأيديولوجيا الإسلاموعروبية.

تاريخ السودان منذ الاستقلال يُظهر بوضوح هذا التبادل الممنهج. انقلاب إبراهيم عبود في 1958 أسقطته ثورة أكتوبر 1964، ليعود المركز بواجهة مدنية. انقلاب جعفر نميري في 1969 انتهى بانتفاضة أبريل 1985، لكن القوى السياسية التي أعقبت سقوطه لم تخرج عن إطار المركز. انقلاب عمر البشير في 1989 أجهض التجربة الديمقراطية مرة أخرى واستمر لثلاثة عقود، ليُسقطه حراك ديسمبر 2018.

وفي كل هذه التحولات، سواء كانت عسكرية أم مدنية، ظل النظام هو ذاته: السلطة في يد المركز، والهامش خارج الحسابات.

إنّ الجيش السوداني منذ تأسيسه في 1925 كـ”قوة دفاع السودان” على يد الاستعمار البريطاني لم يكن يومًا مؤسسة قومية، بل كان أداة لقمع الأقاليم وإبقاء النظام الاستعماري مستقرًا. بعد الاستقلال، ورثت النخبة المركزية الجيش وحولته إلى عصا تستخدمها ضد الأطراف المهمشة، كأداة فعالة لفرض الهيمنة الأيديولوجية والاقتصادية.

وظل هذا الجيش عاجزًا عن حماية حدود البلاد أو مواجهة أي تهديد خارجي، بينما استخدم بكفاءة لقمع حركات التحرر في الجنوب، دارفور، جبال النوبة والنيل الأزرق.

عجز الجيش عن القيام بدوره كقوة قومية دفعه إلى تفويض مهامه لميليشيات قبلية ووكلاء محليين تجاوز عددهم الـ60 منذ الاستقلال. الميليشيات، وأبرزها قوات الدعم السريع، ليست سوى انعكاس لفشل المؤسسة العسكرية في أن تكون قومية، فهي أدوات المركز للتمدد عسكريًا وسياسيًا عبر الوكلاء.

فيزيائيًا، يمكننا تشبيه النظام السوداني بقانون الديناميكا الحرارية الثاني: نظام مغلق يسعى إلى الحفاظ على استقراره الداخلي لكنه يستهلك نفسه ببطء عبر إعادة إنتاج الفوضى (Entropy) مع كل دورة تبادل جديدة بين المدنيين والعسكريين. كلما ازدادت محاولات الإصلاح من داخل النظام نفسه، تفاقمت الفوضى وازدادت هشاشته، لأن المشكلة ليست في من يحكم وإنما في البنية التي يُعاد إنتاجها بوجوه مختلفة.

وعلى مدار العقود، لم تكن الديمقراطية السودانية أكثر من ديمقراطية شكلية، تُستخدم كواجهة لتمكين المركز بعد كل فشل عسكري. الثورات الشعبية التي سقطت بها أنظمة عسكرية لم تأتِ بمشروعات تغيير حقيقية تُخاطب قضايا الهامش، بل أعادت إنتاج نفس القوى التقليدية التي لا تختلف عن العسكريين إلا في اللباس. الأمر أشبه بمسرحية متكررة يُبدل فيها اللاعبون مواقعهم، بينما تظل قواعد اللعبة كما هي.

الحل لا يكمن في إصلاح الجيش أو انتظار مبادرات من المركز، بل في تفكيك الهياكل السلطوية نفسها.

انهيار الجيش السوداني كأداة هيمنة مركزية ليس دعوة للفوضى، بل ضرورة لإعادة بناء مؤسسة عسكرية قومية تُعبر عن كل السودانيين. يجب أن تتشكل كتلة تاريخية جديدة تجمع بين قوى الهامش والقوى المؤمنة بالعدالة داخل المركز، بعيدًا عن صراعات التبادل السلطوي بين مدنيين وعسكريين ينتمون لنفس المنظومة.

إن استمرار الجيش السوداني في شكله الحالي يعني استمرار الأزمة، لأن هذه المؤسسة منذ نشأتها لم تكن سوى امتداد للأيديولوجيا المركزية التي أعاقت بناء دولة وطنية عادلة.

اللعبة واضحة: العسكريون يصعدون حين تفشل القوى المدنية في إدارة الدولة، وحين يتعثر العسكريون تعود القوى المدنية تحت شعارات الثورة والديمقراطية، لكنها تظل تدور في نفس الحلقة المغلقة. إنه نظام مغلق يستهلك نفسه ببطء، وكل محاولة جديدة تبقي الفوضى مستمرة إلى أن يحدث التغيير الجذري.

لذلك، انهيار الجيش السوداني ليس خيارًا، بل ضرورة تاريخية. لا يمكن بناء دولة جديدة على أنقاض مؤسسات ظلت لعقود عصا لقمع الشعب وخدمة المركز. السودان يحتاج إلى مشروع وطني جديد، يُعيد بناء مؤسساته على أسس العدالة والشراكة، بعيدًا عن تكرار التباديل السلطوية التي أثبتت فشلها لعقود طويلة.

تبحث عن الحقيقة؟

إشترك في مجلتنا الإخبارية ليصلك كل جديد